لا يمكن لنا أن نفهم بعمق المشهد السياسي الراهن في مصر بما يزخر به من صراع عنيف بين القوي الليبرالية التي تعبر عن أنبل ما في ثورة25 يناير2011 وموجتها الثانية في30 يونيو, والقوي الرجعية المتخلفة التي تمثلها شراذم جماعة الإخوان المسلمين التي تمارس ترويع الشعب, ومحاولة تعطيل مسيرة خارطة الطريق, بغير رسم خريطة معرفية للمجتمع المصري بعد ثورة25 يناير.
وقد سبق لنا أن رسمنا هذه الخريطة في مقال نشرناه في29 ديسمبر2011( راجع كتابنا25 يناير: الشعب علي منصة التاريخ, المركز العربي للبحوث,2013, ص172).
وقد حددنا أربعة ملامح للمجتمع بعد الثورة في مقدمتها انزواء دور المثقف التقليدي والذي ساد طوال القرن العشرين, والذي كان يقوم علي أساس تبني رؤية نقدية لأحوال المجتمع, والاهتمام بالشأن العام من خلال تبني إيديولوجيات محددة لحساب دور جديد ناشئ لمن يطلق عليه الناشط السياسي.
والملمح الثاني ظهور الحشود الجماهيرية الهائلة التي حلت محل المظاهرات المحدودة العدد, والملمح الثالث الصراع بين الشرعية الثورية والشرعية الديموقراطية, والملمح الرابع والأخير إصرار الجماهير علي المشاركة الفعالة في عملية صنع القرار والرقابة علي تنفيذه.
وأريد أن أقف اليوم أمام فئة الناشطين السياسيين.
هؤلاء الناشطون السياسيون من بينهم هؤلاء الذين نجحوا في الدعوة إلي التظاهر يوم25 يناير2011 في ميدان التحرير, وأن ينتقلوا من خلال عملية التشبيك الإلكتروني علي شبكة الإنترنتNetworking من العالم الافتراضي إلي المجتمع الواقعي. وهكذا مع بداية نزول هؤلاء الناشطين إلي الشوارع فوجئوا هم أنفسهم بأن مئات الألوف من جماهير الشعب حولوا المظاهرة المحدودة إلي ثورة شعبية, نجحت في إسقاط النظام, وأجبرت مبارك علي التنحي عن الحكم.
ومنذ ذلك الوقت برزت فئة الناشطين السياسيين الذين شرذم صفوفهم وتعددت ائتلافاتهم الثورية حتي فاقت200 ائتلاف, وتزايدت المنافسة بينهم حول الظهور الإعلامي المكثف, باعتبارهم زعماء الثورة الذين سيحددون هم وحدهم المسار السياسي للبلاد.
وضمت فئة الناشطين السياسيين أنماطا متعددة من البشر من الصعب بمكان تحديد هويتهم السياسية, أو معرفة المهن التي يعملون فيها. وأصبحت صفة الناشط السياسي مهنة لا مهنة له! وأصبح هؤلاء الناشطون هم اللاعبين الأساسيين في المشهد السياسي بحكم قدراتهم علي تحريك الشارع, وتنظيم المظاهرات الجماهيرية الحاشدة التي يزدودونها بالهتافات الصارخة بل والمتطرفة في كثير من الأحيان, والتي كانت تدفع الجماهير إلي ممارسة العنف ضد قوات الأمن وضد القوات المسلحة في بعض الأحيان.
وقد التفت منذ وقت مبكر حقا إلي خطورة السلوك السياسي لهؤلاء الناشطين إذ نشرت في21 يوليو2011 مقالا بعنوان بيان من أجل حماية الثورة قلت في بدايته بالنص آن أوان المصارحة والمكاشفة. لم تعد تجدي عبارات التمجيد المستحقة لشباب ثورة25 يناير الذين خططوا ونفذوا أهم ثورة في القرن الحادي والعشرين... لأن صفوف الثوار اخترقتها جماعات لا هوية لها, وبعضها تحيط الشكوك والشبهات حول توجهاتها, مما يطرح أسئلة مهمة تتعلق بالجهات الداخلية أو الخارجية التي تدفعها إلي رفع شعارات خطيرة, أو تبني قرارات تمس الأمن القومي في الصميم.
وأشرنا إلي الشعارات الغوغائية التي كانت تنادي هكذا بدون أي تمييز- أن الشرطة بلطجية ويسقط حكم العسكر, بما يتضمنه ذلك من هجوم غير مبرر علي القوات المسلحة التي حمي المجلس الأعلي لها ثورة25 يناير ذاتها. ومعني ذلك اننا كنا أمام جماعات تسعي إلي الفرقة بين القوات المسلحة والشعب, بل لأن بعض الشعارات التي رفعها بعض هؤلاء النشطاء كانت تدعو لتعطيل الملاحة في قناة السويس احتجاجا علي بعض الأوضاع السياسية!
ومعني ذلك أن جماعات شاردة من هؤلاء النشطاء السياسيين تحولوا عن قصد إلي جماعات تخريبية تسعي إلي هدم الدولة كما تعبر عن ذلك صراحة جماعة الاشتراكيون الثوريون. ومن الأهمية بمكان أن نشير إلي أن هؤلاء الناشطين السياسيين ليسوا كلهم شبابا ففيهم شيوخ كانت لهم أدوار قبل ثورة25 يناير, ولكنهم بعد أن تصدروا أدوار البطولة لم يجدوا بأسا من أن يلعبوا دور الكومبارس في المرحلة التي يعيش الشباب أدوارها الرئيسية, فتراهم بدون أي شعور بالحس الوطني أو المسئولية السياسية ينافقون شباب الناشطين, ويؤيدون تحركاتهم الفوضوية, حتي لو كان في ذلك هدم للدولة وتفكيك للمجتمع.
وبعض هؤلاء العواجيز من الناشطين السياسيين لم يقرأ كتابا في حياته, وأغلبهم مثقفون بالسماع يلتقطون الأفكار من منصات الحوار, ويلوكونها في الفضائيات كالببغاوات وهم لا يعرفون أصلها من فصلها! ولكن لديهم جرأة غريبة علي ادعاء الثورية والصراخ بالشعارات الزاعقة, بدون أن يدركوا أن مشوارهم وصل إلي منتهاه منذ زمن بعيد!.
وليس أدل علي ذلك أن واحدا منهم صرح مؤخرا لا فض فوه- أن تصريحات الفريق أول عبدالفتاح السيسي حول ترشحه للرئاسة أمر غير محسوب وأن الوقت ليس مناسبا للخروج بهذه التصريحات وأن هذا قد يؤثر علي حشد المواطنين للاستفتاء علي الدستور.
يتحدث الرجل بثقة وكأنه يمتلك الحقيقة المطلقة, وفي نفس الوقت يبدو كما لو كان وصيا علي الشعب المصري وهو وأمثاله الذين سيرسمون طريقه!.
ولم تتوان ناشطة سياسية هلفوتة تدور حول رحلاتها المتعددة للخارج شبهات متعددة وهي من أدعياء الثورية أيضا عن تأييد هذا التصريح بقولها اأنها كانت تفضل أن يبقي السيسي وزيرا للدفاع لأنه لو أصبح رئيسا فسوف يخضع لحكم الشعب عليه وانتقاده ومهاجمته أحيانا!.
وهذه الدعية الثورية التي تملأ شاشات الفضائيات بجهلها الفاضح مثلها في ذلك مثل زملائها من الأدعياء لا تفرق بين شرعية النقد لأي رئيس ومهاجمته كما تقول!.
والواقع أنه آن الأوان لغربلة صفوف من يطلق عليهم الناشطون السياسيون ففيهم ولا شك في ذلك مجموعات من أنبل شباب مصر, ولكن صفوفهم تضم أيضا أعدادا كبيرة من الأدعياء والانتهازيين الذين ظنوا وهما- كما أثبتت ذلك المكالمات التليفونية التي أذاعها الأستاذ عبد الرحيم علي- أنهم يستطيعون أن يحكموا البلاد من وراء ستار, فيعينون هذا رئيسا للجمهورية وذلك رئيسا للوزراء في محاولات عابثة بمصير الوطن لا تعكس سوي نوع من أنواع المراهقة اليسارية التي قضت عليها القيادات الثورية الحقيقية لثورة30 يونيو.
لقد بدأت مسيرة الديموقراطية الحقيقية في مصر المحروسة, وسيلفظ الشعب من بين صفوفه الرجعيين والخونة, وسيعطي الصدارة للثوريين الحقيقيين.