نتحدث عن رئيس الجمهورية القادم الذى ستسفر عنه الانتخابات القادمة أياً كان شخصه، ونتساءل كيف سيواجه الأزمة المركبة التى تواجه المجتمع المصرى فى الآونة الراهنة؟
وقبل أن نحاول الإجابة على السؤال علينا أن نقرر أن الرئيس القادم -وهناك احتمالات قوية لكى يكون المشير «السيسى» لو قرر نزول ساحة الانتخابات- أمامه مهمة جسيمة، وذلك على الرغم من شعبيته الجارفة. وهى أنه بعد الاحتفالات الصاخبة بالنصر باعتباره بطلاً شعبياً عليه أن يبدأ فى اليوم التالى لانتخابه بالعمل الجاد لتنفيذ البرنامج الذى طرحه على الشعب.
أما لو كان الرئيس غير المشير «السيسى» -وإن كان احتمالاً بعيداً- فإن مهمته ستكون أصعب، ولكن يثور هنا سؤال مهم ما هى الأزمة المركبة التى ستواجه الرئيس المنتخب وعليه أن يتصدى لمواجهتها؟
لقد سبق لى فى مقالى الماضى «اغتراب المهاجر» الذى نشر فى 29 يناير أن دخلت فى حوار مسئول مع أحد قرائى الكرام وهو الدكتور «على فرج» أستاذ الهندسة بجامعة «لويزفيل» بالولايات المتحدة الأمريكية حول تقييم حكم جماعة الإخوان المسلمين. وأنا انطلقت باعتبارى باحثاً علمياً فى المقام الأول- من مؤشرات كيفية وتثبت أن حكم هذه الجماعة الذى جاء نتيجة انتخابات استوفت الشكل الديموقراطى تحول فى الممارسة إلى ديكتاتورية صريحة بعد الإعلان الدستورى الباطل الذى أصدره الرئيس المعزول «محمد مرسى» وأعلن نفسه فيه ديكتاتوراً مطلق السراح. أما الدكتور «على فرج»- ورغم كونه أستاذاً جامعياً مرموقاً- إلا أنه أقل ما يوصف به متعاطف بشدة مع جماعة الإخوان المسلمين، لدرجة أنه ينكر الوقائع الثابتة ويبرر كل الأخطاء التى وصلت لحد الخطايا التى ارتكبها المرشد وجماعته، والدكتور «مرسى» وحزبه الحرية والعدالة.
وقد تنوعت تعليقات القراء على هذه «المناظرة» بين مؤيد ومعارض.
إلا أنه لفت نظرى بشدة تعليق مهم للأستاذ «ماهر زريق» ذكر فيه أنه لا يجد أى فائدة من هذا الحوار/ الجدال الذى دار بينى وبين الدكتور «على فرج» لأنه فى أحسن الأحوال لا جديد فيه. وأضاف فقرة مهمة وأنا أقتبسها وهى «البلد فى أشد الاحتياج لتركيز عميق ومستديم فى اتجاه البوصلة، واتجاه البوصلة هو حلّ المعضلة. والمعضلة هى تلك التركيبة الجهنمية من مشكلات عميقة ومزمنة ومقترنة فى أهم وربما كل أبعاد التقدم والتى لم يواجه هذا البلد مثيلاً لها فى تاريخه الحديث ثقافياً اجتماعياً اقتصادياً سياسياً تعليمياً علمياً زراعياً صناعياً بيئياً صحياً، انفجار سكانى أمنياً... إلخ».
والرسالة الواضحة فى هذا التعليق المهم مبناها أنه أوان التوقف عن الخلافات السياسية حول الماضى القريب، ولنشرع على الفور فى مواجهة الحاضر المتأزم سعياً وراء الحل الجذرى للمشكلات المتعاقبة والتى أطلق عليها «التركيبة الجهنمية»، لأنها تشمل فى الواقع كل مناحى الحياة بلا استثناء.
والواقع أن مصر لا تنفرد من بين دول الربيع العربى بهذه السلبيات الواضحة بل إنها موجودة أيضاً فى تونس وفى ليبيا على نحو أخطر بكثير بحكم سيادة القبلية وانفلات المليشيات العسكرية.
ويؤكد ذلك أن بعض الباحثين الغربيين الثقات وعلى رأسهم الخبير الاستراتيجى الأمريكى المعروف «انتونى كوردزمان» لم يكتفوا بالإشارة إلى هذه السلبيات المعوقة للتقدم فى البلاد العربية وإنما نشروا دراسات تحليلية مهمة تعتمد على المؤشرات الكمية فى إثبات تدهور مستوى الحياة، والذى يحتاج إلى جهود مخططة ومكثفة لوقفه أولاً وللارتقاء بنوعية الحياة ثانياً حتى تتماشى مع المعايير السائدة فى المجتمعات المتقدمة.
وقد نشر «كوردزمان» بحثاً بالغ الأهمية عنوانه «أسباب عدم الاستقرار فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: مسح تحليلى وجعل شعاره الموجه لقادة بلاد هذه المنطقة «ركزوا على شكاوى المواطنين الحادة وتعاملوا معها بكفاءة».
ومن وجهة نظره أنه لابد من إعداد المسرح لمواجهة قادة هذه البلاد لهذه المشكلات المزمنة، ونقطة البداية هى رسم خريطة لمعالم المشكلة. وأبرز هذه الملامح أن عديداً من المشكلات الجوهرية التى تواجه المجتمعات العربية هى خارجة عن سيطرة الحكومات وأهمها على الإطلاق المعدلات السكانية، بالإضافة إلى المواريث التاريخية التى خلقت بؤراً متعددة للتخلف.
ويلفت «كوردزمان» النظر إلى أن الخبراء يختلفون اختلافات عميقة حول الوزن النسبى لكل مشكلة من هذه المشكلات.
وليس هذا غريباً نظراً لتعقد وتشابك المشكلات. ويكفى أن نشير إلى أن نسبة الأمية فى مصر 40% من عدد السكان، وهذه الحقيقة كارثة بكل المقاييس لأن آثارها السلبية تمتد إلى كل ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. فإذا أضفنا إلى ذلك أن من هم تحت خط الفقر يبلغ عددهم 26 مليون مواطن، وإذا نظرنا من ناحية أخرى إلى الملايين من المواطنين الذين يقطنون فى المناطق العشوائية بكل ما يترتب على ذلك من تدهور حياتى لأدركنا أن تشابك هذه المشكلات وحدتها تتحدى قدرة صانع القرار، ناهيك عن تدهور مستوى التعليم، وارتفاع معدلات البطالة وخصوصاً بين الشباب، وتدهور مستوى القوى البشرية، وضعف العائد من الإنفاق على البحث العلمى، والاعتماد على الخارج فى استيراد التكنولوجيا بل والمعرفة فى كل جوانبها لأدركنا أننا فى حاجة إلى ثورة شاملة لكى نخرج من دائرة هذا التخلف المزمن.
غير أن هذه الثورة لن تنجح أبداً إذا ما ألقى الشعب المسئولية على عاتق رئيس الجمهورية المنتخب حتى لو كان فى شعبية «السيسى».
لأن رئيس الجمهورية مهما كانت قدراته لن يستطيع أن يعمل بمفرده، وإنما لابد له من فريق رئاسى على أعلى مستوى، وهو مضطر إلى أن يتعامل مع ما ستفرزه الانتخابات البرلمانية من مجلس نواب يفترض أن يرقى أعضاؤه إلى حجم التحديات الخطيرة التى تواجه البلاد فى الوقت الراهن.
غير أن المهمة الأولى التى ستقع على عاتق الرئيس المنتخب ستكون هى أن يقدم تقريراً متكاملاً للشعب يشخص فيه المشكلات تشخيصاً دقيقاً، وعليه أن يعمل منذ اللحظة الأولى على مكاشفة الناس، وعليه أن ينظم حواراً مجتمعياً حول رؤية استراتيجية لمصر حتى تلتزم بها الوزارات التى ستتولى التنفيذ.
ليس هناك طريقة للعبور إلى التقدم إلا بالتخطيط الطويل المدى والحسم فى اتخاذ القرار والجهود الرسينة والشعبية التى ينبغى أن تتكاتف لتحقيق التقدم المتواصل