أدركت من القراءة المتمعنة للتعليقات المتعددة التى نشرها قرائى الكرام على شبكة الإنترنت حول مقالى الماضى «كيف سيواجه الرئيس الأزمة المركبة»
(نشرت 10 فبراير 2014) أن الرسالة التى أردت إيصالها للقراء وهى أهمية وضع تصورات محددة للمهام التى ينبغى على الرئيس القادم لمصر أياً كان أن يبادر للقيام بها قد وصلت.
وقد خلصت فى مقالى السابق إلى نتيجة أساسية حين قررت اأن المهمة الأولى التى ستقع على عاتق الرئيس المنتخب ستكون هى أن يقدم تقريراً متكاملاً للشعب يشخص فيه المشكلات تشخيصا دقيقا، وعليه أن يعمل منذ اللحظة الأولى على مكاشفة الناس، وعليه أن ينظم حواراً مجتمعيا حول رؤية استراتيجية لمصر حتى تلتزم بها الوزارات التى ستتولى التنفيذ.
وينبغى قبل أن نسترسل فى الحديث عن الملامح الأساسية للصورة الاستراتيجية المرغوبة لمصر أن نقدم لها تعريفاً دقيقا يبرز ملامحها الأساسية.
وقد ورد فى أحد المصادر الموثوقة تعريف دقيق للرؤية الاستراتيجية يرى أنها صورة ذهنية لما ينبغى أن يكون عليه عالم المستقبل. وبلورة الرؤية الاستراتيجية ينبغى أن يسبقها التنبؤ بتطورات الواقع الحالي، لتقدير الصورة التى سيتشكل عليها المستقبل. والمفكر الاستراتيجى الذى سيناط به صياغة الرؤية الاستراتيجية لابد أن يتأمل التاريخ، ويشخص الموقف الراهن، ويفحص الاتجاهات السائدة. والاستراتيجية ليست سوى آلية العبور للتحرك من العالم الذى تنبأنا بتطوراته المستقبلية إذا ظل الحال على ما هو عليه، إلى العالم الذى صغنا ملامحه فى رؤيتنا الاستراتيجية.
وفى تقديرنا أن هذا التعريف من أشمل وأدق التعريفات التى أعطيت للرؤية الاستراتيجية فى التراث النظرى المعاصر.
ولعل العنصر الأول من تعريف الرؤية الاستراتيجية بكونها صورة ذهنية لما ينبغى أن يكون عليه عالم المستقبل، يدفع إلى إثارة السؤال الأول فى عملية الإصلاح أو التغيير وهو: ما هى الصورة التى نريد للمجتمع المصرى أن يكون عليها بعد ربع قرن من الآن، وضعاً فى الاعتبار إعطاء مساحة زمنية كافية للإصلاحات الشاملة لكى تؤتى ثمارها، بما تتضمنه من تفاعلات اجتماعية معقدة، تتضمن من بين ما تتضمنه القبول الاجتماعى للتغيير، أو مقاومته من قبل بعض المؤسسات أو جماعات المصالح، ومدى النجاح فى مواجهة هذه المقاومة.
غير أن العنصر الثانى يعد حاسما، وهو ضرورة التشخيص الدقيق للحالة الواقعية الراهنة فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتشخيص الواقع ليس مهمة سهلة كما يظن عديد من الناس. ذلك أن الواقع ليس مجرد معطى ملقى أمام الناس، ويمكن لهم أن يتفقوا على توصيفه! ذلك أنك لو طرحت السؤال عن الواقع المصرى فلن تعدم من أصحاب المصالح من يقول لك ليس هناك أبدع من ذلك! ولكنك على الطرف المقابل ستجد أصواتاً متعددة يشوبها اليأس والقنوط تؤكد أن الواقع مرير وأن السلبيات تغمر كل شيء، وأن الفساد دب فى كل المواقع! وكالعادة سنجد أصحاب الرؤية المتوازنة الذين لا يهولون ولا يهونون، والذين يمارسون ما نسميه النقد الاجتماعى المسئول، فينقدون السلبيات بجسارة، ولكنهم أيضا - سعيا وراء موضوعية الحكم- يبرزون الإيجابيات بقوة.
وفى تقديرنا أننا فى حاجة فى المقام الأول لأصحاب الرؤية المتوازنة حتى لا تضيع الحقيقة بين أوهام الإنجازات الخارقة، وتضاعيف سحابات اليأس الخانقة! غير أن ذلك التوجه لا يكفى بذاته، فنحن فى حاجة إلى منهج علمى صارم تقوم على أساسه طريقة موضوعية للتقييم، لا تنهض على أساس الانطباعات العابرة، أو التعميمات الجارفة، وإنما فى ضوء مؤشرات كمية وكيفية، ينبغى إتقان صنعها حتى لا تميل الكفة هنا أو هناك، وتكون قادرة على القياس الموضوعي.
ويكفى فى هذا الصدد أن نضرب مثلاً بارزاً بتقييم العائد من التعليم فى مصر. وزارة التربية والتعليم فى عهد «مباركب قررت» وفقا لشهادات دولية متعددة - أن التعليم قد ارتقي، وارتفع مستواه وقارب فى ذلك بلادا متقدمة! غير أن الرأى العام يرى رأياً مضادا مفاده أن التعليم فى حالة انهيار.
وإذا كان وصف الواقع بدقة هى المهمة الأولى فى صياغة الرؤية الاستراتيجية، إلا أن الجزء الأهم فيها، هو ما هى صورة المجتمع المصرى التى نريدها بعد ربع قرن. على سبيل المثال، ما هى الصورة المبتغاة التى ينبغى أن توجه سياسات الإصلاح السياسي؟ هنا ندخل فى صميم التحديات الخاصة بصياغة الرؤية الاستراتيجية.
يمكن القول إن الجماهير قد استقرت- وخصوصاً بعد 30 يونيو وبعد خبرات مريرة مع حكم الإخوان المسلمين الاستبدادى -على أن الإصلاح السياسى لا يجوز له أن يقنع بتطبيق آليات الديمقراطية مثل إجراء الانتخابات النزيهة ولكنه ينبغى أن يرقى لمستوى تحقيق قيم الديمقراطية، وأهمها على الإطلاق التداول السلمى للسلطة، والحوار، والحرص على التوافق السياسي، وأهمية الحلول الوسط.
وهناك رغبة شعبية مؤكدة فى ضرورة الالتزام بخارطة الطريق، والتى أنجزنا منها وضع الدستور والاستفتاء عليه والموافقة شبه الاجماعية بصدده وتبقى بعد ذلك الانتخابات الرئاسية التى ينبغى أن تكون تنافسية ولا تتم عن طريق «البيعة» للمشير «السيسي» والذى يتمتع بشعبية جارفة.
وقد كان إعلان «حمدين صباحي» المرشح السابق للرئاسة عن أنه ينوى الترشح أيضاً هذه المرة موفقا غاية التوفيق، لأن معنى ذلك أن الانتخابات الرئاسية ستكون تنافسية، والرأى النهائى سيكون للشعب مما يعطى للديمقراطية الوليدة ملامحها الأصيلة.
ولكن لو انتقلنا إلى الرؤية الاستراتيجية الاقتصادية فقد لا نجد إجماعاً عليها. وذلك أنه ليس هناك اتفاق عام بين كل الاتجاهات السياسية فى مصر على أن سياسات التكيف الهيكلى وحرية السوق وحرية التجارة وكل ما نصت عليه العولمة هى السياسة الاقتصادية المثلى الكفيلة بحل أزمات الاقتصاد المصرى الحادة.
وأخيرا فى مجال الإصلاح الثقافى كيف سنواجه الصراع العنيف بين رؤية للعالم تركز على الدين باعتباره الحل الأمثل للمشكلات، وهذه الرؤية قد تجنح بطريقة مباشرة وغير مباشرة إلى تغيير معالم الدولة لتصبح دولة دينية -كما سعى إلى ذلك فعلاً حكم الإخوان المسلمين - وتلك رؤية مضادة لطبيعة الدولة المصرية، والتى هى دولة مدنية تقوم على التشريع ولا تقوم على الفتوي، وتؤمن بفصل الدين عن الدولة وليس فصل الدين عن المجتمع.
كل هذه اعتبارات جوهرية ينبغى وضعها فى الاعتبار عند التصدى لصياغة رؤية استراتيجية لا تنفرد النخبة بوضعها، ولكن لابد للجماهير أن تسهم فى صياغتها فى سياق حوار مجتمعى مفتوح لا يقصى أى تيار سياسي.