هناك مؤشرات مؤكدة على أن الدراسات المستقبلية على مستوى العالم تمر بأزمة وهذه الأزمة ترد إلى سببين رئيسيين:
الأول هو التغيرات الجسيمة فى الوضع العالمى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وكتلة الدول الاشتراكية عام 1991 ونهاية عصر الحرب الباردة، وزوال نظام الثنائية القطبية الذى هيمن على مجمل القرن العشرين من ناحية، والثانى هو اللحظة التاريخية التى تمر بها العلوم الاجتماعية الغربية والتى تتسم بسقوط النظريات القديمة والصراع حول تأسيس نظريات جديدة، من ناحية ثانية.
ولعل السؤال الذى يفرض نفسه: ما العلاقة بين انهيار النظام العالمى القديم وأزمة الدراسات المستقبلية؟
الواقع أن هناك علاقة وثيقة. وبيان ذلك أن النظام العالمى القديم الذى سيطر على مناخه السياسى والفكرى الصراع الحاد والعنيف بين الرأسمالية والماركسية، كان يتسم بالثبات النسبى، ذلك أنه بالإضافة إلى العالم الأول ممثلاً فى الولايات المتحدة الأمريكية وباقى الدول الغربية الرأسمالية المتقدمة، كان هناك العالم الثانى متمثلاً فى الاتحاد السوفيتى وغيره من البلاد الاشتراكية. غير أنه بالإضافة إلى ذلك كان هناك العالم الثالث، ونعنى عالم الأطراف الذى يزخر ببلاد تنتمى إلى ثقافات متباينة، وتطبق فيها نظم سياسية متعددة، وإن كان يجمعها سمة واحدة، هى تدنى المستوى الاقتصادى، وقصور البنية التكنولوجية، وضعف الإنتاج وانخفاض مستواه، بالإضافة إلى زيادة السكان بالمقارنة مع الموارد.
وكانت المعركة بين هذه العوالم الثلاثة محتدمة. فى ظل هذه الخريطة العالمية بثوابتها وسماتها الراسخة، كانت تدور الدراسات المستقبلية فى الغرب والشرق، فى ظل مناخ يتسم فى الواقع بالثبات النسبى، وهذا الثبات النسبى كان يتبلور حول الصراع بكل تجلياته العسكرية والسياسية والاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة ما أطلق عليه «العالم الحر»، والاتحاد السوفيتى زعيم البلاد الاشتراكية وبلاد العالم الثالث التى تدور فى فلكه».
الصراع إذن كان هو محور الثبات النسبى، الذى سمح للدراسات المستقبلية الغربية أن تصوغ تنبؤاتها على أساس المؤشرات الكمية والكيفية التى ترى أنه سيحسم لمصلحة الرأسمالية فى النهاية، وكذلك هو نفسه الذى سمح للدراسات المستقبلية السوفيتية أن تتحدث بيقين ثبت من بعد أنه كان وهماً- عن قرب هزيمة الرأسمالية!
فى هذه الحقبة الحاسمة من تاريخ الإنسانية، سمح الثبات النسبى للوضع العالمى أن تنمو الدراسات المستقبلية نظرياً، وأن تتبلور عديد من مناهجها وأدوات بحثها. غير أن هذا النمو وقف أمام تطوره الحقيقى، التحيز الإيديولوجى الصارخ فى كلا المعسكرين. ففى المعسكر الرأسمالى طغى التحيز الرأسمالى على الموضوعية العلمية الواجبة، والتى كان من شأنها أن تشير إلى السلبيات الواضحة فى النموذج الليبرالى ذاته، ولا تتجاهل المؤشرات الخاصة بالتفكك الاجتماعى، وتلك المتعلقة بتدهور أحوال الطبقات الاجتماعية الدنيا. ومن ناحية أخرى ظهر التحيز الصارخ فى المعسكر الاشتراكى على أساس التنبؤ بالانهيار الوشيك للنظام الرأسمالى، وقرب انتصار الاشتراكية المؤكد.
ودارت المعركة العلمية بين المدرسة المستقبلية الغربية والمدرسة المستقبلية الماركسية، ولم تنته هذه الحرب العلمية الشعواء إلا بقدوم عام 1991، والذى يشير فى تاريخ القرن العشرين إلى نهاية النظام العالمى القديم، وإلى أبرز أحداث القرن وهو سقوط الاتحاد السوفيتى والكتلة الاشتراكية ونهاية عصر الحرب الباردة.
وهكذا انتقل الوضع العالمى من الثبات النسبى الذى ميز التفاعلات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عام 1991، إلى حقبة تاريخية مختلفة تماماً، تتسم بالسيولة التى لا تحكمها ضوابط معينة، ومما لا شك فيه أن سقوط الاتحاد السوفيتى قد أدى إلى فراغ أيديولوجى بالغ العمق.
ولم يلبث أن ظهر تيار أيديولوجى جديد يدعى أن الرأسمالية ستكون هى أيديولوجية الإنسانية إلى أبد الآبدين، ومثل هذا التيار المفكر الأمريكى اليابانى الأصل «فرانسيس فوكوياما» فى كتابه الشهير «نهاية التاريخ».
غير أنه فى الطرف المقابل ظهرت أدبيات مضادة بعضها من داخل المعسكر الرأسمالى ذاته، تتشكك فى هذه المقولات، وتؤكد أن مستقبل الرأسمالية ليس مؤكداً كما يزعم أنصارها، ومن أبرز المفكرين فى هذا المجال «ليستر ثورو» فى كتابه المهم «مستقبل الرأسمالية» الذى صدر عام 1996. ولم يكن الفراغ الأيديولوجى فقط هو أبرز سمات مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، بل إن أحوال الأمم ذاتها فى مختلف القارات- شابتها ظواهر جديدة غير مسبوقة، لقد شاهدنا ثورة عديد من الجماعات اللغوية والإثنية والدينية على الدولة القومية، وبرزت مطالبها السياسية التى تتمثل فى حق تقرير المصير، والانفصال عن الدولة الأم، وتأسيس دول جديدة بغض النظر عن امتلاكها مقومات العيش والبقاء.
غير أن أزمة الدولة القومية والتى تتمثل فى خروج عديد من الجماعات عليها، ومطالبتها سواء بالانفصال التام عنها وتأسيس دول جديدة، بالقوة أو بالتراضى السياسى، ليست سوى صورة جديدة واحدة من صور الأزمة. ذلك أن هناك صورة أخرى تتعلق بأزمة الدولة القومية فى البلاد الرأسمالية المتقدمة مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وتتعلق هذه الأزمة بنهاية عصر ما أطلق عليه من قبل «دولة الرعاية الاجتماعية»،
ونستطيع أن نضيف أسباباً أخرى لأزمة الدولة القومية، بعضها يتعلق باتساع نطاق العولمة وخصوصاً العولمة الاقتصادية، وبروز الشركات الدولية، باعتبارها هى وليس غيرها المسيطرة على عملية إصدار القرار الاقتصادى فى عديد من بلاد العالم، وهكذا يمكن القول إنه تشكلت وخاصة فى العقد الأخير، قوة اقتصادية كونية كبرى، تهيمن إلى حد كبير على اقتصاديات العالم، وتضيق كثيراً من حرية صانع القرار الاقتصادى.
هذا الوضع العالمى الجديد الذى يتسم بالسيولة الشديدة، وهذا المناخ الفكرى الذى يميزه عدم اليقين، هو العقبة الحقيقية فى الوقت الراهن أمام الدراسات المستقبلية.
وإذا أضفنا إلى ذلك اندلاع ثورات الربيع العربى فى تونس ومصر وليبيا وتعثر المراحل الانتقالية التى مرت بها وعدم القدرة على التنبؤ بالمآل التاريخى لهذه الثورات لأدركنا أنه على الصعيد الإقليمى العربى -بالإضافة إلى الصعيد العالمى- برزت بالفعل أزمة التنبؤ بالمستقبل!