كنت قد خططت لكتابة سلسلة من المقالات عن الرؤى الاستراتيجية لمصر التى صاغتها فرق بحثية متميزة وأبرزها ـ من وجهة نظرى- مشروع مصر 20-30 الذى أشرف عليه الدكتور «محمد منصور» أستاذ العلوم السياسية بجامعة أسيوط حين كان مديرا لمركز الدراسات المستقبلية التابع لمركز دعم القرار بمجلس الوزراء،
والمشروع المتكامل الذى أشرف عليه الدكتور «فتحى البرادعى» أستاذ التخطيط العمرانى بجامعة عين شمس ووزير الإسكان الاسبق.
غير أن وعكة صحية مفاجئة منعتنى من البدء فى كتابة هذه السلسلة من المقالات التى استكمل فيها ما نشرته من قبل فى كتابى «25 يناير: الشعب على منصة التاريخ» الذى صدر عن المركز العربى للبحوث عام 2013 عن الرؤى الاستراتيجية المصرية التى صاغتها فرق بحثية متعددة.
وقررت بعد أن وصلتنى دعوة كريمة من الدكتور عبدالرازق بركات عميد كلية آداب جامعة عين شمس والدكتور طارق منصورأستاذ التاريخ بالكلية لكى أحضر المؤتمر الدولى الأول لتاريخ مصر فى العصر المسيحى: الفكر والثقافة فى مصر 384-641م الذى ينظمه قسم التاريخ.
وقد آثرت وأنا على فراش المرض- أن أعطى الأولوية فى الكتابة عن هذا المؤتمر البالغ الأهمية.
وترد أهمية هذا المؤتمر أنه ببحوثه المتعددة وبالأسماء اللامعة للمؤرخين من مختلف الأجيال الذين يشاركون فيه يعد أول محاولة أكاديمية مصرية أصيلة لإحياء الذاكرة التاريخية.
وهذا الموضوع أثرته أكثر من مرة فى كتبى ومحاضراتى لإدراكى أن التاريخ المصرى الذى ينقسم إلى ثلاثة عصور كبرى هى العصر الفرعونى والعصر المسيحى والعصر الإسلامى لم يلق اهتمامات أكاديمية وفكرية وثقافية بصورة موضوعية تتسم بالاعتراف بأصالة كل عصر من هذه العصور.وذلك لأنه فى الوقت الذى تضاعفت فيه البحوث الأكاديمية التى أنجزها علماء أجانب ومصريون عن العصر الفرعونى وكذلك عن العصر الإسلامى، إلا أن العصر المسيحى حدث له تعتيم غير مبرر أدى إلى إسقاطه تقريبا من الذاكرة التاريخية المصرية، مع أنه زاخر بإبداعات شتى ثقافية ولاهوتية، ويكفى أن نشير إلى أن نظام الرهبنة الذى أصبح ممارسة دينية عالمية نشأ فى مصر. وفى تقديرى أن الأهمية الكبرى لهذا المؤتمر الدولى الرائد والذى يستحق أعضاء اللجنة المنظمة له من المؤرخين المرموقين بالإضافة إلى شباب الباحثين التهنئة على عقده لأنه يمكن أن يكون أساسا لا لمجرد إحياء الذاكرة التاريخية المصرية، ولكن فى مجال تدعيم المواطنة والتى أصبحت من المبادئ الدستورية المستقرة فى الدساتير المصرية منذ دستور عام 1923 حتى الآن. وهناك أهمية بالغة فى ترسيخ قيمة المواطنة والتى تنص على أن المصريين سواء بغض النظر عن الجنس والدين. ومعنى ذلك تأصيل قيم قبول الآخر المختلف دينيا، ونشر ثقافة التسامح، وأهم من ذلك كله تدعيم فكرة «العيش المشترك» التى هى مفتاح التاريخ المصرى والتى أكسبت مجتمعنا سمة التجانس النادرة فى المجتمعات المعاصرة التى تزخر بالمعارك الطائفية وأدت إلى التشرذم الثقافى والصراع السياسى.
وقد نظّر لفكرة العيش المشترك رائد كبير من رواد فقه المواطنة صديق عزيز لى رحل عنا منذ سنوات هو المستشار الدكتور «وليم سليمان قلادة» والذى نشر عدة كتابات أصيلة فى الموضوع.
وفى هذه المرحلة التى نعيشها والتى تتسم بشيوع ظواهر التطرف الدينى والعدوان على الآخر المختلف وممارسة الإرهاب، نحن فى أشد الحاجة لإلقاء الأضواء على العصر المسيحى المصرى.
وحين طالعت المحاور الأساسية للمؤتمر أدركت أن المؤرخين المشاركين فى المؤتمر قد أبدعوا فى الواقع فى وضع مشكلات البحث وفى اختيار الموضوعات الأساسية التى تتيح للمشارك وللقارئ -بعد طبع أعمال المؤتمر فى كتاب- أن يلم بالملامح الأساسية للعصر المسيحى المصرى. ينقسم المؤتمر إلى أربع جلسات رئيسية وجلسة ختامية الجلسة الأولى عن «الرهبانية فى مصر». ومن بين موضوعاتها التنوع الجغرافى للرهبان فى الأديرة المصرية 380-592م والرهبنة النسائية فى مصر فى العصر البيزنطى، وطعام الرهبان وشرابهم فى مصر فى العصر المسيحى الباكر: الشهادات المصدرية، ومفهوم «مقاومة شيطان الشهوة فى الفكر الرهبانى المصرى فى العصر المسيحى» وجدير بالذكر أننى ركزت على أوراق المؤرخين المصريين ولم أذكر أبحاث المؤرخين الأجانب لأنها تحتاج إلى ترجمة دقيقة لعناوينها.
أما الجلسة الثانية فموضوعها «اللاهوت والكنيسة» ومن أبحاثها «مصر المنجم الروحى للمسيحية فى إثيوبيا ثم فى شبه الجزيرة العربية فى العصر المسيحى 384-641م. «والأريوسيون وأثرهم الفكرى والمذهبى بمصر خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين فى ضوء المصادر المسيحية والإسلامية» والبطريرك الأريوسى «جورج الكياوكى» واضطرابات الإسكندرية 360-361 ومذهب الإرادة الواحدة فى عهد الإمبراطور البيزنطى «هرقل» وأثره على الأقباط فى مصر والقضاء الكنسى فى مصر فى العصر البيزنطى. أما الجلسة الثالثة فقد خصصت للفنون والآداب ومن أبحاثها «تاريخ مصر فى العصر المسيحى: الأهمية القومية والحضارية والثقافية وقراءة فى الدور الثقافى لمدرسة الإسكندرية فى عصرها المتأخر والأكاليل الجنائزية فى مصر الرومانية وفلسفة الفن المسيحى ودورها فى عمليات الترميم فى مصر ودراسة شيقة موضوعها «كيف يموت القبطى: دراسة ملاك الموت عند القبطى».
ثم نصل من بعد إلى الجلسة الرابعة التى اهتمت أساسا بالمصادر البردية والأدبية ومن أبحاثها «ثلاثة نصوص مسيحية من مجموعة جامعة كولومبيا وقراءة جديدة فى كتاب «يوحنا النقيوسى» عن فتح العرب مصر وينتهى المؤتمر بالجلسة الخامسة التى تعرض فيها نتائج المؤتمر.
وأريد أن أعتذر لقرائى الكرام لأننى قنعت باستعراض أبرز عناوين الأبحاث التى قدمت فى هذا المؤتمر الدولى العام الذى بادر قسم التاريخ بكلية آداب عين شمس بعقده، وضم مجموعة مختارة من المؤرخين المصريين والأجانب الذين قدموا إضاءات مهمة للتاريخ المسيحى لمصر.
والمؤرخون المصريون الذين نظموا هذا المؤتمر وشاركوا فيه بأبحاثهم يؤكدون أن المثقفين المصريين بوجه عام عليهم واجب أساسى هو إحياء الذاكرة التاريخية من خلال أعمال علمية موثقة مثل هذه الأبحاث المهمة التى قدمت للمؤتمر، والتى من شأنها أن تثقف المصريين مسلمين كانوا أو أقباطا أو يهودا بالإبداعات الحضارية للشعب فى عصور التاريخ المصرى المتعاقبة الفرعونية والمسيحية والإسلامية. ويهمنى أن أشير إلى إسهام علمى بالغ الأهمية قدمه مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية حين أصدر الباحثان المعروفان «نبيل عبد الفتاح» «ضياء رشوان» «تقرير الحالة الدينية» بجزأيه الأول والثانى والذى تضمن دراسات موثقة عن العقائد والتقاليد الإسلامية والقبطية وطبع طبعات متعددة مما كشف عن تعطش المسلمين والأقباط للتعرف -ربما لأول مرة- على المستوى الجماهيرى على عقائدهم.