اهتممت بموضوع الزمن منذ سنوات بعيدة، خصوصاً حين أصدرت كتابي «الزمن العربي والمستقبل العالمي» الذي نشرته دار المستقبل العربي عام 1998.
والحقيقة أن الزمن يشير مشكلات فلسفية شتي، لا يمكن الإحاطة بها في سياق مقال وجيز. وأياً كانت مشكلة الزمن فلسفياً، فمما لا شك فيه أن الثقافات في العالم تنظر إليه نظرات قد تتشابه في جوانب، ولكن من المؤكد أنها تختلف اختلافات جسيمة من جوانب أخري. وإذا اعتمدنا علي الثلاثية الكلاسيكية الماضي والحاضر والمستقبل، وحاولنا أن نفحص كيف تنظر كل ثقافة لها، لأدركنا علي الفور التأثير الثقافي الواضح علي مدلولات الزمن بالنسبة لهذه الوحدات الثلاث. فمن المؤكد أن نظرة كل ثقافة إلي الماضي تكاد تحدد موقفها من الحاضر، وتشير في نفس الوقت إلي صورة المستقبل الذي تسعي إلي تشكيله وتحقيقه علي أرض الواقع.
ولو نظرنا إلي الثقافة العربية الراهنة، وفحصنا الفكر العربي في اتجاهاته الغالبة الآن، لأدركنا أن مشكلة الماضي تكاد تستغرق إحساسه بالحاضر، وتغلق في نفس الوقت عليه أبواب المستقبل.
غير أن هذا الوضع ـ الذي سيطر علي المجتمعات العربية فترات طويلة جعلتها تعيش ما يمكن أن نطلق عليه عصر «الركود التاريخي» تغير في الخمسينيات بعد سلسلة من الانقلابات السياسية التي حدثت في مصر والعراق وسوريا وليبيا. وربما انفردت مصر بكون الانقلاب الذي قام بها الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952 تحول إلي ثورة بحكم تبنيه مشروع العدالة الاجتماعية الذي سعت الجماهير إلي تحقيقه.
وسادت منذ الخمسينيات في الواقع نظم سياسية شمولية أو سلطوية قيدت حركة الجماهير، وحاولت الهروب من استحقاقات الحداثة السياسية بمعناها الحقيقي، وهو تحقيق الديمقراطية، من خلال القيام بمشروعات تحديثية حاولت تجديد البنية التحتية، أو الاندفاع إلي اقتصاديات السوق التي سيطر علي عائداتها أهل السلطة الحاكمة بالاشتراك مع مجموعات من رجال الأعمال، في الوقت الذي همشت فيه الجماهير العريضة، ووقعت في حبائل الفقر المدقع، وعاشت بغير أمل في رفع مستوي نوعية حياتها البائسة.
ويمكن القول إن ظاهرة ثورات الربيع العربي غيرت تغييراً جوهرياً من طبيعة الزمن العربي الذي اتسم بكونه سكونياً جامداً في مقابل الزمن العالمي الذي يتسم بالحيوية والتدفق والإيقاع السريع.
وهكذا لو سألنا أنفسنا بعد ثورة 25 يناير في مصر في أي زمن نعيش؟ لقلنا إننا نعيش في عصر الزمان الثوري. وذلك أن الهبة الجماهيرية التي قام بها الشباب في 25 يناير والتحمت بها الملايين من أبناء الشعب فتحولت إلي ثورة، كانت تهدف إلي التغيير الجوهري لأنساق المجتمع السياسية لتحقيق الديمقراطية، والاقتصادية لتحقيق العدالة الاجتماعية، والثقافية لتأكيد المواطنة واحترام حقوق الإنسان والاعتداد بالكرامة الإنسانية.
وأتيح لي أن أتتبع بصورة شبه يومية التحولات الكبري التي حدثت في المجتمع المصري منذ 25 يناير، وكذلك الأحداث الجسيمة المتتالية التي وقعت في ظل حكم المجلس الأعلي للقوات المسلحة، وجمعت حصيلة هذه الدراسات في كتابي «الشعب علي منصة التاريخ» الذي صدر عن المركز العربي للبحوث عام 2013.
ويمكن القول إنه نظرياً- انتهت حقبة «الشرعية الثورية» التي تولي فيها الشارع تحت ضغط الجماهير الغفيرة تحريك الأمور واتخاذ القرارات الكبري، وذلك بحكم الانتقال إلي مرحلة الشرعية الديمقراطية والتي تمثلت في الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
وهكذا انتقل المجتمع إلي مرحلة جديدة تمام الجدة بعد ثورة 25 يناير، وهو حكم جماعة الإخوان المسلمين، بعد حصول حزبها «الحرية والعدالة» علي الأكثرية في مجلسي الشعب والشوري بالاشتراك مع حزب النور السلفي، بالإضافة إلي نجاح الدكتور «محمد مرسي» في الانتخابات الرئاسية وتنصيبه رئيساً للجمهورية.
غير أنه لم يتح لحقبة الشرعية الديمقراطية أن تستمر طويلاً لأن جماعة الإخوان المسلمين عن طريق رئيس الجمهورية الدكتور «مرسي» انقلبت وخصوصاً بعد الإعلان الدستوري الشهير- علي الديمقراطية، وقررت أن تنفرد بحكم البلاد بصورة ديكتاتورية صريحة بعد أن دخلت في صدامات عنيفة مع كل مؤسسات الدولة الأساسية.
وهكذا عادت «الشرعية الثورية» من جديد بعد قيام حركة «تمرد» التي دعت جماهير الشعب للخروج إلي الشارع لإسقاط حكم الإخوان المسلمين الجائر، وسقط النظام فعلاً بعد الدعم الجسور للقوات المسلحة للإرادة الشعبية.
وإذا كنا اعتبرنا من قبل أن «الزمان الثوري» قد امتد من 25 يناير حتي 30 يونيو 2014 إلا أن هذه الحقيقة التي عرضت لها في كتابي الأخير «الزمان الثوري: 25 يناير 30 يونيو، تحليل للموجات المتدفقة الذي نشرته عام 2014 الهيئة العامة للكتاب شابتها أحداث دامية لابد من الإشارة إليها، لأنها أوصلتنا إلي مرحلة جديدة تمر بها بعد 30 يونيو، وهي ما نطلق عليه الزمان الفوضوي!
وهذه الأحداث الدامية التي حفلت بها المرحلة الانتقالية بدءاً من 25 يناير تظهر في تحول الثورة السلمية التي قامت بها الجماهير إلي عنف فوضوي صاخب ظهرت ملامحه في المصادمات الدامية مع قوات الأمن في وقائع معروفة وشهيرة، سواء أمام «ماسبيرو» أو في شارع «محمد محمود» أو في غيرها من المواقع. وهو ما أدي بنا إلي نشر مقالات متعددة عن الثورة بين الفوضي والعنف (في 9 فبراير 2012) وعن تشريح لظاهرة الغوغائية الجماهيرية (في 14 مارس 2013) ومقالات عديدة يشير في نفس الاتجاه.
وإذا كان يمكن القول إن إعلان خارطة الطريق بعد 30 يونيو التي بدأت بوضع دستور جديد وفتح باب الترشيح للانتخابات الرئاسية، مما يشير إلي بداية تحقيق أهداف الثورة، وإرساء دعائم ديموقراطية مصرية حقيقية، إلا أن رد فعل «جماعة الإخوان المسلمين »والذي تمثل في المظاهرات العدائية التخريبية التي يقوم بها أتباعها في الشوارع والجامعات، بالإضافة إلي تعدد الحوادث الإرهابية الموجهة ضد قوات الأمن وقوات الجيش قد حول الزمان الثوري إلي زمان فوضوي في الواقع، وخصوصاً في ظل الانقسام الاجتماعي الحاد، والغوغائية السياسية التي تمارسها بعض الائتلافات الثورية، والتي جعلت صورة المستقبل لا تبدو مشرقة خصوصاً في ظل تردي النخبة السياسية المصرية.
هناك أوضاع سلبية سائدة تحتاج إلي تشخيص أسبابها، وردها إلي الأوضاع التي أنتجتها وخصوصاً بعد التغير الجوهري في بنية المجتمع بعد ثورة 25 يناير.