النتيجة
التى خلصت إليها فى مقالى الماضى (من الركود التاريخى إلى الزمان الفوضى) لا يجوز
أن تمر هكذا بغير مناقشة تحليلية. لقد سبق لى أن نشرت كتابى الأخير «الزمان
الثورى: 25 يناير- 30 يونيو تحليل موجات الثورة المتدفقة» (القاهرة: الهيئة العامة
للكتاب 2014) فما الذى حدث من بعد وأدى إلى تحول الزمان الثورى إلى زمان فوضوى؟
عشنا
جميعا بعد عزل الرئيس «محمد مرسى» وإعلان المشير «السيسى» خريطة الطريق أياما
مجيدة حقا، تمثلت فى انتهاء لجنة الخمسين من صياغة دستور جديد يحمل فى طياته كل
قيم ثورة 25 يناير، ويحقق مطالب فئات الشعب المختلفة، وتم الاستفتاء عليه بنسبة
عالية، وشرعنا فى الخطوة الثانية وهى الانتخابات الرئاسية والتى ستبدأ بعدها
الانتخابات النيابية، وبذلك يكتمل البناء الدستورى الجديد.
غير
أن جماعة الإخوان المسلمين لم تقبل الحقيقة الواقعة، والتى مؤداها أن الجماهير
التى سبق أن شاركت فى انتخاب الدكتور «مرسى» هى التى خرجت غالبيتها للانقلاب على
حكم الإخوان!
بعبارة
أخرى نزول الجماهير بالملايين للشوارع فى 30 يونيو كان فى حقيقته انقلابا شعبيا
دعمته القوات المسلحة، منعا لحدوث احتراب أهلى بين جماعة الإخوان وخصومها.
غير
أن جماعة الإخوان المسلمين لم تقبل الحقيقة المرة فى أنها فى الواقع فشلت فشلا
ذريعا فى إدارة شئون البلاد، وأخطر من ذلك أنها بحكم عقيدتها «الأممية» عرضت الأمن
القومى المصرى لخطر بالغ، كما أنها - بحكم إقصائها كل القوى السياسية - قامت
بإحداث انقسام رأسى فى المجتمع يتمثل فى أنصار الجماعة من ناحية وهم أقلية،
وغالبية الشعب المصرى وهم الأكثرية.عدم التسليم بالفشل الذى تحقق، والعجز عن
ممارسة النقد الذاتى والاعتراف بالأخطاء الجسيمة التى ارتكبها قادة الجماعة أدى
إلى إصدارهم الأوامر لأتباعهم بنشر الفوضى والتخريب فى الشوارع والمدارس
والجامعات. وانتقلت موجات الرفض من مجرد مظاهرات سلمية ـ قد تكون مشروعة إلى
مظاهرات مسلحة يستخدم فيها المولوتوف والخرطوش، وتحولت المظاهرات لتصبح موجات
إرهابية متتالية تركز على اغتيال قيادات الشرطة والقوات المسلحة وزرع القنابل
لتنفجر فى الجماهير العريضة.
وإذا
أضفنا إلى ذلك مظاهرات اتحادات شبابية مختلفة ضد قانون التظاهر ومحاولة خرقه
بالقوة، ورفض الأحكام القضائية التى صدرت بحق من خالفوا القانون من قياداتهم،
فمعنى ذلك أننا فى الواقع انتقلنا من الزمان الثورى بكل إيجابياته ،بالرغم من بعض
السلبيات، إلى الزمان الفوضوى بكل مظاهره السلبية ونزعاته التخريبية، مما يلقى
بظلال كثيفة من الشك حول تحول البلاد فى المدى القصير والمتوسط إلى نظام ديمقراطى
مستقل، ومن هنا يثور سؤال مهم يتعلق بالعوامل التى أدت إلى انبثاق هذا الزمان الفوضوى.لا
يمكن لنا فهم ما ما حدث فى مصر المحروسة منذ 25 يناير حتى الآن إلا إذا اعتمدنا
على ثلاثية أساسية تركز عليها العلوم الاجتماعية المعاصرة فى دراستها لمختلف
الظواهر لتحديد أسبابها وتجلياتها وتحولاتها، وهى دراسة الشخصية والثقافة
والمجتمع.
ونحن
نعرف أن أحد التخصصات المعروفة فى جامعات العالم مبحث «الثقافة الشخصية، والذى
يضمن نظريات تفسيرية مهمة، كما أن دراسة المجتمع موضع اهتمام علوم اجتماعية متعددة
أهمها على الإطلاق علم الاجتماع.
ونحن
حين نتحدث أولاً عن الشخصية لا نعنى الشخصيات الفردية لأعضاء المجتمع ولكن نعنى
أساساً ما يطلق عليه «الشخصية القومية»National character،وحين
نتحدث عن الثقافة فنحن لا نتحدث بوجه عام ولكن عن ثقافة مجتمع محدد فى لحظة
تاريخية ما.ونريد أن نقدم اليوم ملاحظات مبدئية عن الشخصية المصرية باعتبارها
تندرج تحت مبحث الشخصيات القومية فى العالم لنرصد تحولاتها عبر الزمن، والأسباب
السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى أدت إلى هذا التحول.للأسف لن أستطيع
التفصيل فى عديد من جوانب دراسة الشخصية المصرية لأنها تحتاج إلى مساحات لا يسعها
مقال صحفى محدود. ويكفى أن أشير إلى أن لى كتابا كاملا فى الموضوع نشرته قبيل حرب
أكتوبر 1973 بعنوان «الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر» (انظر الطبعة
الثالثة القاهرة، الهيئة العامة للكتاب 2005) ويتضمن أبحاثا متعمقة حول الشخصيات
القومية عموما، وحول الشخصية المصرية على وجه الخصوص.
ويستخدم
مصطلح الشخصية القومية بوجه عام لوصف السمات النفسية والاجتماعية والحضارية لأمة
ما، وخصوصاً تلك التى تتسم بثبات نسبى والتى يمكن عن طريقها التمييز بين هذه الأمة
وغيرها من الأمم.
غير
أن هناك باحثين يرفضون استخدام هذا المفهوم وينتقدون البحوث التى تجرى تحت مظلته
باعتبارها غير علمية لغلبة التحيز على الباحثين فى هذا الميدان، فى حين أن هناك
باحثين آخرين يعتمدون عليه اعتماداً مباشرا فى معرفة سلوك الشعوب، كما فعلت حكومة
الولايات المتحدة الأمريكية فى الحرب العالمية الثانية حين كلفت الباحثة
الأنثروبولوجية الشهيرة «روث بندكت» لكى تضع كتابا عن «الشخصية اليابانية» لكى
تعرف كيف ستتعامل مع الشعب اليابانى بعد هزيمة اليابان العسكرية. وأنجزت هذه
الباحثة كتابها الشهير «زهرة الكريزانتيم والسيف» إشارة منها إلى اختلاط الوداعة
وحب الطبيعة مع النزعة للعدوان فى شخصية اليابانيين المعاصرين.وبحوث الشخصية
القومية فى نظر بعض النقاد- تتسم بالعنصرية لأنها تميل إلى رفع شأن شعب ما والخفض
من قدر شعوب أخرى. تماما مثلما فعل النازيون حين قدسوا الأصل الآرى واعتبروا باقى
الأجناس أقل قدرا، وكما يفعل الإسرائيليون الصهاينة فى تقديس أصولهم العرقية والحط
من قدر الشعب العربى.
والواقع
أن هذه الانتقادات قد تكون صحيحة إذا ما غالى الباحثون الذين يستخدمون مفاهيم
الشخصية القومية فى اعتبار نتائج بحوثهم وكأنها قوانين عامة تتسم بالثبات ولا يمكن
دحضها، أو إذا ما خالطت نبرات عنصرية أحكامهم على شعوب أخرى غير الشعب الذى ينتمون
إليه.وإذا عدنا إلى ما بدأنا به عن أهمية تشريح فكرة الزمان الفوضوى من خلال دراسة
الشخصية القومية والثقافة العربية والمجتمع المصرى، فليس أمامنا سوى تأمل التحولات
الجذرية التى لحقت بالشخصية المصرية وتحولها من «الشخصية الفهلوية» التى تبدت فى
هزيمة يونيو 1967 إلى «الشخصية الإيجابية» التى ظهرت أمام العالم فى حرب أكتوبر
1973، إلى «الشخصية الثورية» التى بهرت العالم فى 25 يناير 2011 وأخيراً إلى
«الشخصية الفوضوية» التى سادت المشهد السياسى بفعل الإرهاب والمظاهرات التخريبية
بعد 30 يونيو 2014.
تحولات
الشخصية المصرية تحتاج إلى دراسات متعمقة.