ليس هناك خلاف بين الباحثين فى العلاقات الدولية على أن الولايات المتحدة الأمريكية – وعلى وجه الخصوص بعد انهيار الاتحاد السوفيتى – ظهرت على المسرح العالمى باعتبارها الإمبراطورية العالمية التى تتحكم فى شئون الكون، وتنفرد بإصدار القرارات الدولية فى مجال الحرب والسلام على السواء، غير مكترثة فى ذلك بالأمم المتحدة عموماً وبمجلس الأمن خصوصاً. حدث ذلك بحكم تحول النظام الدولى الثنائى القطبية- والذى كان توازن حركته أثناء الحرب الباردة كل من الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية – إلى نظام أحادى القطبية تنفرد فيه الولايات المتحدة باتخاذ القرار.
وبغض النظر عن التراث النظرى الزاخر الذى يحاول التنبؤ باضمحلال القوة الأمريكية، بالإضافة إلى صعود أقطاب عالمية جديدة مثل الصين وبداية التحول البطئ نحو نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب، فيمكن القول أن الرمز البارز لعملية اضمحلال القوة الأمريكية كان ولا شك الهجوم الإرهابى الذى شنته جماعة من الإرهابيين الذين ينتمون إلى تنظيم القاعدة ضد مراكز القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية فى 11 سبتمبر 2001.
وتنظيم القاعدة الإرهابى كما نعرف تقوده جماعة "جهادية" إسلامية تهدف فى الواقع إلى تغيير النظام العالمى، وذلك من خلال هزيمة الإمبراطورية الأمريكية وإحياء نظام الخلافة الإسلامية من جديد، بحيث يتم اختيار خليفة واحد يحكم الكون كله، ويخضع كافة الأمم والشعوب لحكم الإسلام من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية.
ولو طبقنا المنهج التاريخى لعرفنا أن جذر الحلم الوهمى باستعادة الخلافة الإسلامية بدأ بعد سنوات من إلغائها عام 1924، حينما أنشأ "حسن البنا" جماعة الإخوان المسلمين، وجعل استعادة الخلافة الإسلامية بل وتوسيعها لتشمل الكون كله هو الهدف الاستراتيجى للجماعة.
فقد قرر ذات مرة "إن طبيعة الإسلام أن يقود ولا يقاد وذلك لكى يفرض قوانينه على كل الأمم ويبسط قوته لتشمل العالم كله. ووضع "حسن البنا" مجموعة من التنظيمات المحكمة لتحقيق هذا الحلم الكبير من خلال تنظيم جماعة الإخوان المسلمين وتربية أعضائها دينياً وعسكرياً تمهيداً ليوم الجهاد العظيم. وهو فى سبيل "تقريب" موعد النصر النهائى شكل جهازاً سرياً مهمته اغتيال الخصوم السياسيين من العلمانيين أساساً، باعتبار أن العلمانية وتعنى الفصل بين الدين والدولة هى الخصم الرئيسى للإسلام.
وقام هذا الجهاز السرى بالفعل بمجموعة من الاغتيالات الخطيرة أبرزها على الإطلاق اغتيال "محمود فهمى النقراشى" باشا رئيس وزراء مصر فى الأربعينيات، وكذلك المستشار "الخازندار" وهو قاضى سبق له الحكم على عدد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين.
وقد ثبت للحكومة المصرية التى كانت تحكم البلاد فى هذا الوقت أن جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية خطرة، فقامت بحلها واعتقلت المئات من أعضائها وتم اغتيال "حسن البنا" نفسه فى ظروف غامضة.
كان هذا الصدام الدامى هو أول هزيمة لجماعة الإخوان المسلمين وهى تسعى للسيطرة على مجمل الفضاء السياسى المصرى عن طريق الإرهاب، تمهيداً للنفاذ إلى مختلف بلاد العالم العربى وذلك لغزو العالم وإعلان إحياء الخلافة الإسلامية واختيار خليفة مسلم واحد يحكم العالم.
قد يبدو هذا الحلم الوهمى خيالاً ولكنه يعيش كهدف استراتيجى لدى قادة الإخوان المسلمين. والدليل على ذلك أن مرشد الإخوان المسلمين الحالى الدكتور "محمد بديع" والذى يحاكم الآن فى مصر جنائياً صرح عقب فوز حزب "الحرية والعدالة" التابع للجماعة بالأكثرية فى مجلسى الشعب والشورى فى مصر "أنه يبدو أن حلم حسن البنا فى استعادة الخلافة الإسلامية بدأ فى التحقق" وأضاف هذه مجرد خطوة فى الطريق حتى نصبح أساتذة العالم!
وأعترف أن هذا التصريح الجهول استفزنى بشدة فكتبت مقالاً علقت فيه على هذا الكلام المرسل وقلت له "أساتذة العالم نعم ولكن فى الجهل!" وكنت أقصد بذلك أساساً أن هذا الحلم الوهمى باستعادة الخلافة الإسلامية لا يستند إلى أى فهم موضوعى لحقائق العالم المعاصر. فالنظام الدولى الراهن يتكون من دول قومية متعددة لها أنظمتها السياسية الخاصة والتى هى النتاج الطبيعى للتاريخ الاجتماعى الفريد لكل بلد. وهذه الدول تعيش فيها شعوب شتى وأقوام متعددة، وتسودها أديان سماوية أو عقائد دينية مختلفة كالبوذية وغيرها، فكيف يمكن أن يهبط على الكون خليفة إسلامى واحد لكى يحكم العالم كله، ويفرض على الناس أحكام الشريعة الإسلامية؟
ومن العجيب أن حلم "حسن البنا" والذى كان زعيماً سياسياً أساساً ولم يكن فقيهاً دينياً شاركه فيه من بعد بعض الفقهاء المرموقين، ومن أبرزهم الشيخ "يوسف القرضاوى" والذى هو عضو بارز فى جماعة الإخوان المسلمين.
والدليل على ذلك أنه نشر مقالاً فى التسعينيات فى تقرير إسلامى عنوانه "الأمة فى عام" يدعو فيه إلى إحياء نظام الخلافة.
وقد علقت على أوهامه فى مقال لى نشر فى جريدة "الأهرام بتاريخ 1/8/1994" بعنوان "الحركة الإسلامية بين حلم الفقيه وتحليل المؤرخ" وكنت أقصد بالمؤرخ الأستاذ "طارق البشرى"، ونقدت فيه آراءه نقداً عنيفاً بحكم تجاهلها للواقع العالمى والقطرى والمحلى، والجرى وراء سراب من التهويمات لا تليق بفقيه محترم ينبغى أن يقرأ الواقع قبل أن يتوه فى عالم الأحلام الوهمية!
وقد رد على الشيخ "القرضاوى" بمقاله نشرها فى "الأهرام بتاريخ 7/8/1994" ودارت بيننا لأسابيع مناظرة نقدية عنيفة، طرحت فيها عليه عدة أسئلة حاسمة فشل فشلاً ذريعاً فى الإجابة عنها. وهذه الأسئلة كما سجلتها فى مقال لى بالأهرام نشر فى 15/8/1994 هى:
- هل سيتولى الخليفة منصبه بالتعيين أم بالانتخاب؟
ولو كان بالتعيين من الذى سيعينه؟ هل هو مجلس المجتهدين الذى اقترح تكوينه الشيخ "القرضاوى"؟
- ومن له حق الترشح للخلافة؟ وهل لابد أن يكون من رجال الدين -مع أنه لا كهانة فى الإسلام ولا احتكار فى معرفة الشريعة- أم أن أى مواطن عادى يمكنه الترشح ؟
- وهل سيتم تداول السلطة بمعنى أنه سيتغير الخليفة كل فترة زمنية، أم أنه ما دام قد جلس على كرسى الخلافة فلن ينزل منه أبداً؟
ورد علىّ الشيخ "القرضاوى" فى مقالة أخيرة نشرها فى "الأهرام" بتاريخ "2/8/1994" برر فيه عجزه عن الإجابة على أسئلتى المشروعة بقوله أنه لم يكتب بحثاً عن نظام الخلافة أو النظام الإسلامى فى الإسلام، وأضاف أنه ليس من حقه أن يحتكر تفاصيل قواعد اختيار الخليفة لنفسه لأنه حق الأمة ممثلة فى أهل الحل والعقد!
هروب متعمد من الإجابة، لأن أصحاب الحلم منذ "حسن البنا" "حتى محمد بديع" مرشد الإخوان المسلمين الحالى لم يفكروا بعقولهم وإنما ساقتهم أهواؤهم والغرور القاتل بأنهم أسمى من غيرهم من بنى البشر، ومن حقهم أن يحكموا العالم ولو باستخدام القوة والإرهاب!
لقد ضاعت جماعة الإخوان المسلمين – بعد أن أعلنت عديد من البلاد العربية أنها جماعة إرهابية- فى غمار حلمها المستحيل باسترداد الفردوس المفقود والذى يتمثل فى عقولهم المشوشة فى الخلافة الإسلامية العابرة للقارات وللأمم وللشعوب والثقافات جميعاً!