فى المقال الافتتاحى للسلسلة وعنوانه «تحولات الشخصية المصرية» عرضنا لمشكلة الدراسة العلمية للشخصيات القومية، وما أثارته من خلافات بين العلماء الاجتماعيين حول موضوعية هذه الدراسات. وخلصنا إلى أننا يمكن أن نستخدم هذا المصطلح بطريقة منضبطة نظرياً ومنهجياً. واقترحنا أن ندرس تحولات الشخصية المصرية فى أربع لحظات تاريخية فارقة هى لحظة هزيمة يونيو 1967، ولحظة انتصار أكتوبر 1973، ولحظة الثورة فى 25 يناير، ولحظة الفوضى العارمة عقب 30 يونيو 2013، والتى تسببت فيها جماعة الإخوان المسلمين.
وقد قررنا بصدد لحظة هزيمة يونيو 1967 أنه سادتها «الشخصية الفهلوية» التى تجلت فى عدم قيام الأجهزة السياسية بالمشورة العقلانية اللازمة «لجمال عبد الناصر»فى سياق صنع القرار الخاص بالأزمة، مما أدى إلى تصعيد غير مبرر من الجانب المصرى تمثل فى قرارات غير مدروسة. كما أن سيادة تقاليد «تمام يا أفندم» التى تعبر أسوأ تعبير عن «الشخصية الفهلوية»، وادعاء المشير «عبدالحكيم عامر» عن جاهزية القوات المسلحة للدخول فى حرب مع إسرائيل، مع أن الحقيقة كانت غير ذلك، كل هذه العوامل هى التى أدت إلى الهزيمة الساحقة فى 5 يونيو 1967.
ويبقى السؤال كيف استطاع الشعب المصرى أن يخرج من كهوف الهزيمة العميقة، وتتجلى شخصيته الإيجابية التى انبثقت من رماد الانكسار القومى؟
بدأت البشائر بخروج المظاهرات الشعبية الهادرة رافضة قرار الرئيس «عبد الناصر»بالتنحى، ومطالبته بالاستمرار حتى يقود المسيرة من الهزيمة إلى النصر. ثم بعد ذلك مظاهرات الطلبة احتجاجاً على الأحكام الهزيلة التى صدرت بحق قادة الطيران لمسئوليتهم عن عدم حماية الطائرات المصرية التى ضربت وهى رابضة على الأرض، واضطرار «عبدالناصر» إلى إصدار قرار بإعادة المحاكمة.
ولكن أهم من ذلك كله كانت ملحمة إعادة بناء القوات المسلحة التى كلف بها الفريق أول «محمد فوزى»، وعاونه فى ذلك اللواء «الشاذلى»، وهى ملحمة متكاملة لم تشمل فقط إعادة التدريب ورفع الكفاءة، ولكن شحذ الروح المعنوية، والاستعانة بخريجى الجامعات للعمل فى الأسلحة التى تحتاج إلى معرفة علمية.
وبلغت الشخصية الإيجابية ذروتها فى حرب الاستنزاف التى استمرت سنوات استطاعت فيها القوات المسلحة أن تتخطى حاجز الهزيمة، وأن تعبر قناة السويس، وأن تضرب المواقع الإسرائيلية، بل وأن تعود بأسرى إسرائيليين.
كل هذه الخطوات الجسورة كانت المقدمة الضرورية لحرب أكتوبر التى شنتها القوات المسلحة المصرية ضد القوات الإسرائيلية المحتلة، بعد أن نجحت بعد معجزة فنية وعسكرية فى عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف المنيع.
كيف يمكن لنا إبراز تجليات الشخصية الإيجابية المصرية فى حرب أكتوبر؟
لا أجد أفضل من أن أستعيد سطوراً سجلتها عقب وقوع الحدث التاريخى الجليل وذلك فى مقال نشر بجريدة «الأهرام فى 22/1/1974».
ليس من شك فى أن الأداء البطولى للقوات المسلحة فى حرب أكتوبر، وما برز للعالم كله من فاعلية الجندى المصرى وجسارته، بالإضافة إلى التخطيط العلمى الدقيق الذى سبق الحرب، قد أدى إلى تغيير ملموس فى تقييم الشخصية المصرية لدى عديد من الكتاب والمفكرين.
انطلقت شرارة المعركة، واكتسح العبور المصرى المجيد الحصون والاستحكامات التى أقامتها التكنولوجيا الإسرائيلية، وفر أو أسر أو قتل عشرات الإسرائيليين المتقدمين العصريين!
وقد أدى ذلك إلى الحديث عن إيجابيات الشخصية المصرية بعدما طالتها سهام النقد الجارحة. ترى ما هو تفسير هذا الموقف؟ إن ذلك يرد فى رأينا إلى سيادة نظرة تجزيئية مسطحة للشخصية المصرية. لقد أخطأنا فى الموقفين: موقف الهزيمة وموقف النصر. فلا المغالاة فى تجريح الذات والتركيز على سلبيات الشخصية المصرية كان يستند إلى أساس علمى، ولا القناعة بتمجيد السمات الإيجابية كفيل بتصحيح الخطأ، أو التخلى عن الأحكام الذاتية غير الموضوعية.
إن كل هذه هى حصيلة منهج تجزيئى معيب فى النظر للشخصية القومية بعيداً عن السياق التاريخى الذى تمارس فيه فعلها، تؤثر فيه وتتأثر به. إن الشخصية المصرية ليست قالباً جامداً تتضمن عدداً من السمات الحضارية والنفسية «الغريزية» التى لا تتغير ولا تنال منها رياح الزمان. بل إنها- فى التحليل العلمى الدقيق- تعد انعكاساً لنمط المجتمع بما يتضمنه من علاقات اقتصادية متميزة فى حقبة تاريخية محددة، مضافاً إليها بعد أساسى ومهم هو البعد الحضارى الذى يمتد فى الزمان بصورة خفية، قد يستعصى أحياناً على التحليل. ويمكن القول إن الشخصية المصرية صحت من سباتها الطويل، حين تم اللقاء العاصف بين المجتمع المصرى المتخلف وبين الحملة الفرنسية التى حملت وقتذاك علامات النهضة الأوروبية ودلائل التقدم العلمى الغربى. منذ ذلك الحين حاول جيل من الرواد العظام تحديث الشخصية المصرية من مختلف زواياها وأقطارها. ولم تنقطع محاولات التجديد منذ ذلك الحين، وإن كان العامل الأجنبى المتمثل فى الاحتلال كان يتعمد إجهاض كثير من هذه المحاولات. وخلاصة ما نريد أن نركز عليه، أن الشخصية المصرية تضم عدداً من السمات السلبية الناجمة عن تخلف أنماط الإنتاج، وعن بقايا السيطرة الاستعمارية القديمة وما طبعته فى نفوس البشر، وعن آثار العلاقات الاستغلالية للصفوة المستغلة السياسية والاقتصادية، التى حاولت أن تقضى على كل ما هو نبيل فى الشخصية المصرية، لضمان الخنوع السياسى، والامتثال الاقتصادى لهذه الطبقات. غير أن الشخصية المصرية فى الوقت نفسه تزخر بعديد من الإيجابيات التى هى ميراث الأجيال المناضلة المتعاقبة، من هنا يمكن القول إن الشخصية المصرية جديرة منا بنظرة علمية متوازنة، لا تسقط فى هوة اليأس القاتل بالتركيز على السلبيات، ولا تغامر بالمبالغة الفجة حول الإيجابيات. ومحك إبداعنا الحقيقى هو كيف نخطط للتغيير بصورة عقلانية، وعلى ضوء قيم حضارتنا الأصيلة ذات الجذور الراسخة فى تكويننا النفسى والاجتماعى. لا نريد بذلك أن نعود إلى الوراء، كما ينادى بعض المفكرين الرجعيين، فذلك ضد منطق التاريخ، ولكننا لا نريد أيضاً أن نقفز قفزة عشوائية إلى الأمام، تقليداً أعمى لمجتمعات أجنبية تفتقر بعضها إلى أصول حضارية عريقة، أو مازال بعضها فى مرحلة إعادة صياغة الهوية الحضارية بتأثير الثورة العلمية والتكنولوجية. فليس محتماً علينا أن نضحى بأصالتنا فى سبيل عصريتنا.
نقلاً عن: الأهرام