انقلاب السحر على الساحر: العنف المسلح من أفغانستان إلي بلاد العرب
"هيلاري
كلينتون" وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة تفاجئنا في العالم العربي
باعترافها أن أمريكا هي من خلقت تنظيم القاعدة الذي يقاتلها اليوم، وأن ذلك تم لأسباب متصلة بصراع كوني مع الاتحاد
السوفيتي السابق، وأن المخابرات الباكستانية والسعودية لعبت دورا كبيرا في دعم
التصور الأمريكي لوقف محاولة التمدد الروسي في أفغانستان، واقترابه من المياه
الدافئة، واستخدام المجاهدين العرب كمخلب قط في الإستراتيجية الأمريكية أو كما
تحدث بريجنسكي، كبيدق في رقعة الشطرنج الكبرى للقضاء على الاتحاد السوفيتي السابق.
أولاً: القاعدة والتصور الأمريكي
وفق
"هيلاري كلينتون" فإن القاعدة على الأقل في مرحلة التأسيس كانت جزءًا من
تصور أمريكي هدفه الانفراد بقيادة العالم وتأكيد نهاية التاريخ كما أشار "
فوكوياما "، وفي مقابلة مع المجلة الفرنسية
"النوفيل أوبزرفاتور" قال مستشار الأمن القومي للرئيس
كارتر"بريجنسكي" كنا نريد أن نعطي الاتحاد السوفيتي حرب فيتنام خاصة
بهم، وبالفعل كان على موسكو الدخول في حرب استمرت عشر سنوات أفقدت الإمبراطورية
هيبتها ومكانتها وأدت إلى تفككها، وحين سألته المطبوعة الفرنسية عن التبعات التي
ستلحق بأوربا وأمريكا والعالم بسبب دعم الأصولية الإسلامية أجاب: ما هو أكثر أهمية
للتاريخ طالبان أم انهيار الاتحاد السوفيتي، بعض المسلمين الهائجين أم تحرير أوربا
ونهاية الحرب الباردة؟
وقد أشارت
"هيلاري كلينتون" في مداخلتها إلي استخدام الوهابية وتوظيفها في هذه
المسألة، لأن أغلب الشباب وعلى رأسهم "أسامة بن لادن" وأيمن الظواهري كانوا متأثرين بالفكر السلفي
الوهابي الذي اكتسح عقول الشباب العربي في مرحلة السبعينيات والثمانينيات، وكانت
المملكة العربية السعودية تعتبر انتشار هذا الفكر إحدى أدواتها في سياستها
الخارجية.
وفي
الفيلم الوثائقي الذي أعده "آدم كريتس" للبي بي سي بعنوان "سلطان
الخوف" أو " قوة الكابوس" كما في العنوان الأصلي للفيلم
بالإنجليزية force-nightmare أشار إلى أن المصالح الغربية
في العالم الإسلامي تولد بالضرورة علاقات مع هذا العالم فهو قلب "قوس الأزمات"
وهو آخر منطقة كبرى من مناطق العالم الحر المجاورة مباشرة للاتحاد السوفيتي، وتحت
أرضه نحو ثلاثة أرباع احتياطات العالم النفطية الثابتة والمقدرة وهو مكان إحدى
أكبر الأزمات قابلية للتفاعل في القرن العشرين
تلك هي مواجهة الصهيونية للقومية العربية – ومن ثم فإن المجاهدين العرب
والجهاد الأفغاني والمسلمين الذين هبوا إلى أفغانستان للدفاع عن العالم الإسلامي
وحدوده في مواجهة الغزو الشيوعي الإلحادي، جرى توظيفهم دون أن يدروا في سياق خطط
كانت أكبر أجهزة المخابرات تشرف عليها سواء في أمريكا أو السعودية أو باكستان، وأن
هذا التوظيف البراجماتي في بعده الرئيسي كان السبب في تعميق ظاهرة العنف في فعل
الحركات الإسلامية العنيفة، وأنه هو الذي قاد إلى المواجهة بين الجماعات الجهادية
وبين الولايات المتحدة الأمريكية.
ثانياً: نادي السفاري وتوظيف القوى المتطرفة
اكتشفت هذه الجماعات قبل أن تعلن في عام 1998 اكتمال
مشروع القاعدة الفكري وبنيتها التنظيمية بإعلان "الجبهة العالمية لقتال
اليهود والصليبيين" أن الخطر الأكبر على مشروعها الجهادي هو المخابرات
الأمريكية، وكانت أفغانستان هي الفضاء الذي تبلور فيه تحول في إدراك تلك الجماعات
ناحية أن الخطر المهدد للعالم الإسلامي ولمشروعها الجهادي هو العدو البعيد، أي
أمريكا وأوربا والعالم الغربي وليس النظم الداخلية التي كان يطلق عليها العدو القريب،
لم يكن ذلك التحول في إدراك تلك الجماعات بسبب الخطر الأخلاقي الأمريكي على العالم
الإسلامي أو الفساد الحضاري ولكن بسبب اكتشاف سياسات المحافظين الجدد والتعرف على
أفكارهم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والتي أرساها بشكل أساسي "برنارد
لويس"، ثم تلامذته، والذي كان أبرزهم "صموئيل هنتجتون" الذي تحدث
عن صراع الحضارات.
وفي دراسته المهمة بعنوان "البنية الإرهابية للقاعدة" يشرح " أندرو جافن مارشال" ما أطلق عليه "نادي السفاري"، وهو تحالف وكالات الاستخبارات المختلفة في العالم الإسلامي، والتي تنسق مع السي آي إيه، وتأسس في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ولعب الفرنسيون الدور الأكبر في التنسيق له، وشرح "جافن" كيف دعم الغرب الخوميني وأسقط الشاه، ورتب لدعم حركة الإخوان المسلمين في مصر للثورة الإيرانية، الفكرة الرئيسية التي ستتطور مع الزمن في علاقة أمريكا وأوربا بالعالم الإسلامي تقوم على فكرتين رئيسيتين الأولى: افتح جروح التنوع الطائفي والعرقي في المنطقة لكي يقاتل الناس بعضهم بعضا بعيدا عن التحالف في مواجهة المصالح الغربية. والثانية: هي استمرار تطوير توظيف القوة المتطرفة للإسلاميين في مواجهة الاتحاد السوفيتي عدو الغرب، والذي يتم التسويق له باعتباره قوة ملحدة معادية للإسلام أو في مواجهة أي قوة أخرى يرى الغرب ضرورة التخلص منها كما حدث مثلا في يوغوسلافيا، وكما يحدث الآن في سوريا، حيث يبدو واضحا سياسة: دع هذه القوة المتطرفة التي أوجدناها تقاتل بعضها بعضا حتى تفنى.
يشير
"بيتر ديل سكوت" في دراسته 11/9 إلى جهود المخابرات الأمريكية C.I.A
والباكستانية ISI والسعودية GID والبريطانية
M16، في خلق حالة تنظيم القاعدة، فقد تم تدريب أكثر
من 100 ألف مقاتل في باكستان بين عامي 1986 و1992 في معسكرات أشرفت عليها تلك
الأجهزة، وظلت مستمرة بعد رحيل الاتحاد السوفيتي عن أفغانستان، كما أن تمويلها
الضخم كان يتم عبر طرق غير مراقبة فقد تم إنشاء بنك الائتمان والتجارة الدولي
لتسهيل تلك المهام خارج المؤسسات الرسمية الأمريكية.
تداخل
العمليات القذرة وغسيل الأموال وتجارة المخدرات والهروين كانت جزءًا من الدعم الغربي
لهذه العمليات، فقد وصل إلى الحزب الإسلامي الذي كان يقوده "قلب الدين
حكمتيار"، أسلحة بما قيمته مليار دولار، وكانت الشاحنات تأتي بالأسلحة وتعود
محملة بالمخدرات لتوزيعها في أمريكا وعلى الجنود السوفييت حتى يدمنوا المخدرات.
أحد
البرامج التي نفذتها السي آي إيه في الثمانينيات، كان برنامج تمويل دعاية
المجاهدين في الكتب المدرسية التي تدرس في المدارس الأفغانية، ودعمت الولايات
المتحدة المجاهدين بــــــــ43 مليون دولار كمساعدة غير عسكرية من أجل مشروع الكتب
الدراسية الذي نفذته وكالة التنمية الأمريكية USAID وكانت هذه الكتب محتشدة بصور تحبذ على العنف مثل الألغام والدبابات
والبنادق.
ثالثاً: أمريكا تضفي الشرعية على القاعدة
في كتابه
"جبهة باكستان .. الصراع مع الإسلام المسلح" يشير "زاهد حسين"
إلى الدور الأمريكي والأوربي فيما أطلق عليه تنفيذ أكبر عملية سرية في التاريخ
الحديث، فقد كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية تقدم المال والسلاح وكانت المخابرات
الباكستانية هي التي تقوم بالتنفيذ الكامل والتي حولت المقاومة الأفغانية إلى حرب
إسلامية مقدسة، وأدى ذلك في الواقع إلي إلهام جيل كامل من الإسلاميين الباكستانيين
بفكرة الجهاد، كما أشبع ضباط الجيش والاستخبارات بمفهوم الجهاد نتيجة تعاملهم مع
المجاهدين الأفغان، بيد أن الغريب في الأمر، كما أشارت "هيلاري كلينتون"
في مداخلتها المشار إليها، أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أوقفت تعاملها مع
المخابرات الباكستانية، وتركت باكستان وحدها في الميدان تواجه أفكار وعقول أبنائها
والعالم المتشدد الجهادي الجديد الذي أصبحت جزءًا منه.
وكما يشير
"سعيد علي عبيد الجمحي" في كتابه "تنظيم القاعدة، النشأة، الخلفية
الفكرية، الامتداد، اليمن نموذجا" فقد أضفى الدور الأمريكي أهميته، من حيث إنه
أضفى على القضية الأفغانية صفة الشرعية الدولية، وهو ما شجع الحكام العرب
والمسلمين لاتخاذ مواقف مؤيدة للجهاد والمجاهدين، ولو قامت أي دولة أخرى بالدور
الأمريكي في دعم القاعدة لكان ذلك دليل إدانة على دعم الإرهاب ودخول القوائم
السوداء التي تضعها أمريكا وأوروبا اليوم في مواجهة جماعات العنف المسلح التي هي
صنيعة يدها ونسج غزلها على عينها.
لعب الغرب
دورا كبيرا في إسقاط صدام بدعوى حيازته للأسلحة الكيماوية والتي ثبت كذبها، وأدى
الاحتلال الأمريكي للعراق إلى خلق مجال حيوي جديد لتنظيم القاعدة، وهو ما أسس لقدوم أبي مصعب الزرقاوي وجماعته إلى
العراق، والانتقال من تنظيم التوحيد والجهاد إلى دولة العراق الإسلامية، وفتح
الباب أمام الجيل الثاني لتنظيم القاعد الذي كان أكثر شراسة في عنفه، وفي تأجيج
الصراع المذهبي والطائفي في العراق وفي المشرق العربي كله.
ومع تحول
الثورة السورية إلى العسكرة، واستخدام السلاح في مواجهة النظام تحولت سوريا إلى ما
يطلق عليه "أفغانستان المتوسط"، وصرنا بإزاء حالة جديدة تتصارع فيها
جماعات العنف المسلح ويقتل بعضها بعضا، كما هي الحال في العلاقة بين "داعش"
وجبهة النصرة، والتي بلغ عدد القتلى من الطرفين أكثر من أربعة آلاف قتيل منذ بداية
هذا العام، وتتعرض دولة الأمويين العظيمة لما يشبه الإبادة الجماعية وسط إغضاء
غربي وانصراف أمريكي وأممي عن المأساة التي تعيشها سوريا، وإذا كان لنا أن نقول إن
دور الغرب في الحالة الأفغانية هو الفعل الحشدي والتعبوي لدعم ظاهرة القاعدة التي
أنتجت الجيل الأول والثاني من الشباب العربي والإسلامي من قلب التطرف والأممية
والجهادية العالمية، فإن دورها في الحالة السورية يبدو متخليًا وكأنه يريد لهذه
الحرب أن تستمر، أو أن يتعزز الاقتتال الطائفي بين الشيعة والسنة كما هي الحال في
العراق.
المعلومات
تتحدث عن أن عائلات عربية وأعضاء من القاعدة يتحركون من باكستان وأفغانستان
والعراق وجنوب اليمن فضلا عن دول الربيع العربي مثل ليبيا وتونس ومصر وحتى مالي
يتحركون إلى سوريا، وهو ما يعني أننا بإزاء حالة جديدة تهيئ الجغرافيا السياسية
للعنف القاعدي من قبل الجيل الثالث للتنظيم، والذي يجذب مقاتلين يأتون من أوربا
وأمريكا ومن روسيا، ويقدر تعدادهم بالآلاف، ومع استمرار الصراع في سوريا فإن تدفق
المقاتلين الأجانب مرشح للزيادة، لا يبدو الافتراض القائل بأن آسيا وأوربا وأمريكا
تنظف نفسها من المجاهدين بفتح الباب لهم إلى سوريا وتحويلهم إلى قنبلة متفجرة في
قلب العالم العربي مع عودتهم إلى بلدانهم صحيحا، ذلك أن هؤلاء المقاتلين لن يبقوا
في سوريا إلى الأبد، وأن الوحش الذي أطلقته أمريكا وأوربا وغذته في أفغانستان
ومناطق التوتر والصراع الأخرى لتحقيق مصالحها سينفجر في وجهها حين يعودون إلى المدن الأمريكية والأوربية.
رابعاً: انقلاب السحر على السحرة
إن مقولة
"انقلاب السحر على الساحر" يصدق على أوربا وأمريكا اللتين صنعتا تنظيمات
الإرهاب وجماعاته المسلحة ضمن مخطط استراتيجي واسع لتفكيك الاتحاد السوفيتي، ففي
أفغانستان نشأت القاعدة منذ عام 1984 وبلغت اكتمالها مع عام 1998، والقاعدة هي التي
هاجمت أمريكا في عقر دارها، وفجرت مبنى مركز التجارة العالمي، كما هاجمت مبنى
وزارة الدفاع الأمريكية، ومن أفغانستان حيث رعت مخابرات الولايات المتحدة
الأمريكية ومخابرات الدول الأوربية والمخابرات الباكستانية والسعودية تأسس ما يمكن
أن نطلق عليه مركز تفريخ الجماعات والتكوينات والشبكات الإرهابية في العالم والتي
تتخذ من العنف المسلح سبيلا لها.
فقد شهدت
العاصمة الإسبانية مدريد 2004 تفجيرات استهدفت أربعة قطارات، وأدت إلى مقتل ما
يقارب المائتين، والألفي جريح، وأطاحت بالحكومة اليمينية بسبب ما اعتبره المواطنون
ضريبة دفعها الإسبانيون ثمنا لاشتراك بلادهم في الحرب على العراق، كما شهدت
العاصمة البريطانية في عام 2005 وفي وضح النهار سلسلة عمليات انتحارية متزامنة
استهدفت القطارات أدت إلى مقتل خمسين شخصا وجرح سبعمائة شخص، ولأول مرة في تفجيرات
لندين يكون منفذوها مولدا وجنسية من الغرب، فثلاثة من المنفذين كانوا باكستانيين
وواحد آخر كان من جاميكا، وأشار وقتها دانييل بينجامين في مجلة التايم إلى الدور
الأمريكي في صناعة جماعات العنف المسلح وإرهابها بقوله: "قد برهنت أمريكا على
كفاءتها في مطاردة الإرهابيين، لكنها باحتلال العراق برهنت أكثر على كفاءتها في
صناعتهم"، لقد كان احتلال العراق من قبل أمريكا والقوى المتحالفة معها أحد
أكبر الأسباب التي أعادت للقاعدة زخمها، ولجماعات العنف المسلح قوتها وحيويتها،
فقد عاد أبو مصعب الزرقاوي من أفغانستان إلى العراق بعد الاحتلال الأمريكي للعراق،
وهناك تأسس ما يمكن أن نطلق عليه الجيل الثاني الأكثر وحشية ودموية من القاعدة في
العراق.
وفي سوريا
اليوم، يتشكل ما يمكن أن نطلق عليه "الجيل الثالث" لجماعات العنف المسلح،
حيث تتحدث التقديرات عن وجود عشرين جنسية أوربية تشارك في القتال في سوريا، وعن
أعداد المقاتلين الأوربيين تشير التقديرات الرسمية أنهم يتراوحون بين ألف وخمسمائة
وألفي مقاتل، وتشير المعلومات إلى أنهم ينتقلون إلى سوريا عن طريق تركيا، حيث لا
يذهبون مباشرة إلى مكان القتال، كما أن القرب الجغرافي لسوريا من أوربا يشجع هؤلاء
المقاتلين على العزوف عن الانتقال إلى منطقة
وزيرستان على الحدود بين باكستان وأفغانستان، لقد كانت الإستراتيجية
الأوربية والأمريكية تقوم على مواجهة جماعات العنف المسلح في مناطق وجودها بعيدا
عن القارة الأوربية والأمريكية، وكانت تعمل على جعل البحر المتوسط عازلا أو فاصلا
بين شواطئه الجنوبية والشمالية، ولكنها اليوم القارة الأوربية تصبح مركزا لجماعات
العنف المسلح تلك، بل إنها أصبحت مصدرًا لتصديرها إلى خارجها كما هي الحال في هجرة
المقاتلين الأوربيين من أوروبا إلى سوريا، حيث ينضمون إلى أكثر الجماعات تشددا وهي
الدولة الإسلامية في العراق والشام وجبهة النصرة.
خامساً: الجهاديون الأجانب في سوريا
في دراسة
لمعهد واشنطن بعنوان "الجهاديون الأجانب في سوريا، تعقب شبكات التجنيد"،
تتبع الباحث إشعارات الوفاة للمقاتلين الأجانب على صفحات الإعلام الاجتماعي، واتضح
أن أغلب إشعارات الوفاة لأكثر من ألف ومائة مقاتل كانت في النصف الأخير من عام
2013، وهو ما يشير إلى تدفق المزيد من المقاتلين الأجانب في سوريا كلما امتد أمد
الصراع هناك، والذي تشير كل التقديرات إلى أنه لن يكون صراعا قصير الأمد وإنما
صراع طويل وممتد ربما لعشرات السنين القادمة، لتعقد مكوناته الطائفية والعرقية ولتعقد
طبيعة مواقف القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع.
هذا يعني
في الواقع، استمرار ظاهرة تدفق المقاتلين الأجانب والأوربيين إلى سوريا، وتعاظم
المخاطر المتصلة بعودتهم لبلدانهم إذا عادوا إلى هناك محمّلين بأفكار السلفية
الجهادية وبخبرات قتالية عالية ستمثل قنابل موقوتة في مواجهة مجتمعاتهم، وكما
عايشت المجتمعات العربية مشكلة العائدين من مناطق التوتر والقتال في أفغانستان
وألبانيا والبوسنة، فإن المجتمعات الأوربية هي الأخرى تواجه اليوم معضلة "العائدين
من سوريا".
البلدان
التي رصدتها دراسة معهد واشنطن لمقاتلين أوربيين قتلوا في سوريا: هي فرنسا، أستراليا، إيرلندا،
ألبانيا، ألمانيا، الولايات المتحدة الأمريكية، البوسنة، بريطانيا، كندا،
الدانمارك، كوسوفو، مقدونيا، نيوزلندا، إسبانيا، بلغاريا، إيطاليا، لوكسمبورج،
النرويج، رومانيا، السويد، وبالطبع هناك بلدان أخرى أوربية لم يعلن عن مقاتلين لها
قتلوا لها في القتال هناك، وحسب معلومات أوردها المركز الدولي لدراسة الظواهر
الراديكالية، فإن فرنسا لها 412 مقاتلا في سوريا، وبريطانيا لها 366 مقاتلا،
وبلجيكا لها 296 مقاتلا وألمانيا لها 240 مقاتلا، بينما هولندا لديها 152 مقاتلا،
بينما تتحدث التقديرات عن أكثر من مئة مقاتل أمريكي.
تشير
المعلومات أيضا إلى أن الفئات العمرية التي تتجه من أوربا للقتال في سوريا تتراوح
أعمارها بين فئتين إحداهما من الرابعة عشرة إلى الثامنة عشرة، والثانية من الثامنة
عشرة إلى الخامسة والعشرين، وهؤلاء حين يعودون لبلدانهم يكونون أكثر استعدادا
للقيام بعمليات تفجيرية في بلدانهم فقياسا على العائدين السابقين من أفغانستان أو
البلقان، يكون كل شخص واحد مستعدًا للقيام بعمليات تفجيرية من
بين كل تسعة، ومن ثم فالعائدون من سوريا هم قنبلة موقوتة محتلمة التفجر في وجه
الحضارة الأوربية والغربية والأمريكية.
الخطر
الأكبر الذي تواجهه أوربا اليوم هو "العائدون من سوريا وبلاد الشام"،
فاحتمالات قيامهم بعمليات تفجير في العواصم الأوربية هي مسألة وقت لا أكثر من
منظور المسئولين الأوربيين، وأصبح سؤال: متى يضرب جهاديو سوريا في أوربا، سؤالا
مطروحا بقوة في الدوائر الأوربية والغربية.
تمثل
ساحات القتال في سوريا اليوم ثاني أكبر تجمع في التاريخ الإنساني لجذب مقاتلين من
دول متعددة للمشاركة في القتال، التجمع الأول كان في أفغانستان، حيث سهلت أوربا وأمريكا
تكوينه وتشكيله دون تقدير لعواقبه ونتائجه التي ترتد إلى صدر من صنعها اليوم، وفي
داخل هذا التجمع تنشأ ما نطلق عليه "الشبكات الجهادية المغمورة " Jihadist networks submerged، والتي تحمل الفكر السلفي الجهادي والخبرة الحركية في القتال، كما
أنها تتواصل مع مجموعات أخرى جهادية التقت بها في ساحة القتال تلك، وهو ما يشجعها في
المستقبل حتى بعد العودة من القتال لإمكان
التواصل ونسج خيوط جديدة لعمل تنظيمات صغيرة، تصبح هذه التنظيمات الخطيرة المغمورة
في المجتمع أحد المصادر المحتملة للتحول بالعنف في مواجهة مجتمعاتها وحكوماتها،
وبعض الجهاديين الأوربيين المقاتلين في سوريا تم الإعلان عن مقتلهم، ولكنهم لم
يقتلوا ومن ثم يعودون إلى بلدانهم ولديهم الإمكانية للقيام بأعمال عدوانية ضد ما
يعتبرونه حضارة غربية مؤذية للمسلمين في فلسطين والعراق وفي سوريا ذاتها.
تتنادى
أوربا لعمل مؤتمرات تمكنها من التنسيق بين دولها لمواجهة ظاهرة العائدين من سوريا،
فقد عاد بعضهم فعلا، والتقى وسائل الإعلام، وأكد أن العائدين يحملون في داخلهم
رغبة انتقامية من أوربا وأمريكا بما في ذلك "أحلام بتفجير البيت الأبيض"،
والمؤسسات الأوربية، المشكلة أن الجيل الثالث الجديد من القاعدة هو أكثر عنفا
وميلا للتدمير والتفجير من الجيل الأول للقاعدة، من أمثال عبد اللـه عزام وأسامة
بن لادن اللذين كان لديهما هدف هو تحرير والدفاع عن بلدان المسلمين في مواجهة ما
اعتبروه تهديدا لحدودها من دولة ملحدة
وشيوعية وهي الاتحاد السوفيتي، لكن مواجهة الحضارة الغربية والتدمير
لمؤسساتها، يمكننا القول إن الجيل الثاني من القاعدة هو من قام بها، أما الجيل
الثالث الذي تربى في أحضان داعش، فإنه أكثر طائفية وعنفاً وعسكرة واستعداداً
للانتحار والتدمير، ومن هنا المخاطر الحقيقية التي يمثلها هذا الجيل العائد على
البلدان التي يعود إليها خاصة في أووبا وأمريكا.
يمثل المقاتلون الأجانب في سوريا من أوربا وأمريكا
وفق التقديرات الموثقة نسبة تصل إلى 7%، ولحساسية
المجتمعات الأوربية للصورة، حيث أطلقت عدة فيديوهات لأوربيين في سوريا وهم يقاتلون
ويمارسون العنف هناك، وهو ما اعتبره مسئولون أوربيون تهديدا للقيم والحضارة
الغربية، فإن الظاهرة يتم التركيز عليها إعلاميا ربما بأكثر من حجمها، وبدون
التقليل من خطر الظاهرة وأهميتها، فإنه يجب أن يتم الفصل بين معالجة تلك الظاهرة
الإرهابية بالوسائل التي تحد منها وتحاصرها، وهذا حق لأوربا ولأمريكا وللدول التي
تهددها تلك الظاهرة دون تعميم يلحق بكل المسلمين والعرب في أوربا، حيث تنتشر
التيارات اليمينية التي تؤسس لظاهرة الإسلام فوبيا، والتي قد توظف تلك الظاهرة
الهامشية لشباب مراهق ويعاني من تهميش وعزلة وعدم تحقق، لتجعل منها ظاهرة تنال
الوجود العربي والإسلامي كله في هذه البلدان الأوربية والأمريكية، فيما تطلق عليه
الاتجاهات اليمينية "الحدود الجديدة لدار الإسلام في أوربا" ، ومن هنا
الدور الذي يجب أن يلعبه المسلمون والعرب في أوربا لنفي علاقتهم بتلك الظاهرة،
وبتأكيد انتمائهم لبلدانهم التي يعيشون فيها، وبتقديم نماذج حقيقية للتسامح وتقديم
صورة الإسلام السمحة.
في خطاب
الرئيس الأمريكي الأخير بنيويورك أمام خريجي ويست بوينت، أشار إلى دعم القوى
المعتدلة من الجيش الحر لتكون بديلا عن القوى الإرهابية، وخصص خمسة مليارات لتأسيس
صندوق لمكافحة الإرهاب في مالي واليمن والصومال وليبيا، وهو ما يعني أن البؤر التي
صنعها الأمريكيون لتكون ملاذات محتملة لجماعات العنف المسلح، عليهم أن يعملوا على
تضييق الخناق عليها كما اعترف "أوباما"
صراحة بأن الإرهاب هو التهديد الأكثر مباشرة على الولايات المتحدة في الداخل
والخارج، وأن التهديد الرئيسي لم يعد من القاعدة المركزية لتنظيم القاعدة، وإنما
من الجماعات اللا مركزية التابعة للتنظيم.
إن إحدى
أهم العبر التي تقدمها لنا علاقة الغرب بتنظيم القاعدة ودوره في دعم ذلك التنظيم،
هو أنك تسمّن كلبا ليتحول إليك ليعضّك، وهكذا تحولت القاعدة من خنجر في يد أمريكا
لمواجهة الاتحاد السوفيتي إذا بها تتحول إلى خنجر في خصر أمريكا وأوربا، هذه أحد
وجوه تقلبات السياسة وأعاصيرها والتي لا يزال العالم كله يعاني منها، وهو ما يؤكد
أن أمن العالم كله واستقراره هو أمن واحد للجميع، ففي ظل العولمة لا يمكنك أن تحقق
أمنك وحدك وإنما أمن البشرية هو أمن للجميع.
أهم المراجع
- أندرو جافن مارشال، البنية الإرهابية للقاعدة
http://saotaliassar.org/Frei%20Kitabat/01072012/KchalibAlAli003.htm
- زاهد حسين، جبهة باكستان، الصراع مع الإسلام المسلح، (بيروت: الدار
العربية للعلوم، 2007).
- كمال حبيب، تحولات الحركة الإسلامية والإستراتيجية الأمريكية، (القاهرة: دار
مصر المحروسة، 2006).
- سعيد علي عبيد الجمحي، تنظيم القاعدة النشأة ..الخلفية الفكرية ..
الامتداد، (القاهرة: مدبولي، 2008).
- فؤاد حسين، الزرقاوي الجيل الثاني للقاعدة، (بيروت: دار الخيال للطباعة
للنشر، 2005).
-هارون ي . زيلين، الجهاديون الأجانب في سوريا، تعقب شبكات التجنيد، معهد
واشنطن، ورابط الدراسة:
- فيديو عن مجاهدي أوربا أجرته فرانس 24 ورابطه:
http://www.youtube.com/watch?v=2vhaxj_q3gk
- كارمن جوخدار، متي يضرب جهاديو سوريا في أوربا، السفير
، يناير 2014 ورابطه:
http://www.assafir.com/Windows/PrintArticle.aspx?ArticleID=334795&ChannelID=63&ref=Toolbar