ناقشنا في مقالنا الماضى "الثقافة
والتنمية" (جريدة القاهرة في 8 يوليو 2014) إشكالية الثقافة والتنمية، وقررنا
أنه لا يمكن صياغة سياسة ثقافية فعالة بغير ربطها ربطاً وثيقاً ببرامج التنمية.
ويقتضى ذلك التحديد الدقيق للوضع
الاجتماعى في البلاد والذى لو استخدمنا لغة المؤشرات الكمية لقلنا أنه يتمثل في
40% معدل الأمية، ووجود 26 مليوناً من المواطنين يقعون تحت خط الفقر، بالإضافة إلى
16 مليون مواطن يقطنون في العشوائيات.
والسؤال الجوهرى هنا كيف يمكن لوزارة
الثقافة أن تصل ببرامجها إلى هذه الكتل المليونية؟
من المؤكد أن الأساليب التقليدية اجتماعية
كانت أو ثقافية لن تستطيع الوصول إليها، ومن ثم نحن في حاجة إلى إبداع منهجى لكى
نصوغ طرائق جديدة تسمح لنا بالتواصل مع هذه الملايين وبصورة غير تقليدية.
وقد أشرنا من قبل إلى أن برامج التنمية
القومية لم تفلح كثيراً في مجال القضاء على التخلف وتطوير المجتمعات، ولذلك تنبه
عدد من علماء الاجتماع والمخططين الاقتصاديين إلى ما يسمى "التنمية
القاعدية"، بمعنى النزول إلى الميدان حيث يتواجد فيه أفراد الطبقات الاجتماعية
الأشد فقراً والأدنى تعليماً لدراسة مطالبهم الاجتماعية والثقافية، والنظر في
كيفية إشباعها بطرق مبتكرة تتجاوز الأساليب التقليدية سواء في مجال التنمية أو في
مجال الثقافة.
وقد طرح علينا الدكتور "محمد حافظ
دياب" أستاذ علم الاجتماع المعروف في الاجتماع الأسبوعى لمجلس خبراء المركز
العربى للبحوث ورقة هامة عن العلاقة بين الثقافة والتنمية، وقد طبق فيها ثلاثة
مناهج رئيسية.
فقد طبق أولاً المنهج المقارن في دراسة
السياسة الثقافية في كل من اليابان وبريطانيا. وطبق أيضاً المنهج التاريخى في تعقب
العلاقة بين التنمية والثقافة منذ تأسيس "محمد على" للدولة الحديثة في
مصر حتى الوقت الراهن، وطبق أخيراً منهج التحليل الثقافى. لكى يشير إلى أهم
الإشكاليات في مجال التنمية والثقافة.
وقد نوقشت الورقة مناقشة مستفيضة وتقرر
إعادة صياغتها حتى يتقدم بها المركز العربى للبحوث إلى السيد وزير الثقافة الدكتور
"جابر عصفور"، إسهاماً من المركز في المناقشات الدائرة في الوقت الحاضر
حول البرنامج الجديد لوزارة الثقافة الذى طرح يوم الخميس الماضى على أعضاء المجلس
الأعلى للثقافة.
وقد توصلنا من مناقشة ورقة الدكتور
"محمد حافظ دياب" إلى مجموعة من الأفكار الهامة التى تطبق فكرة
"التنمية القاعدية" سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية الثقافية.
وقد طرح الكاتب فكرة أساسية مبدئية مبناها
ضرورة إجراء سلسلة من المسوح الاجتماعية والثقافية على عينات ممثلة من الأميين في
مختلف المحافظات، وممن يقيمون تحت خط الفقر وممن يقطنون في العشوائيات، وذلك
لدراسة أوضاعهم الاجتماعية من ناحية ومطالبهم الثقافية من ناحية أخرى.
غير أن الهدف الرئيسى من هذه المسوح –
بالإضافة إلى الاستفادة القصوى من البيانات الهامة التى ستجمع فيها- هو اكتشاف
المواهب بين صفوف هذه الفئات الاجتماعية من الشبان والشابات الذين يمكن بعد
تدريبهم في وزارة الثقافة أن يكونوا قادة ثقافيين في مجتمعاتهم المحلية بحكم
صلاتهم العضوية بالناس.
وهناك مؤشرات مؤكدة على أن هذه المواهب
موجودة بالفعل وتحتاج فقط إلى من يكتشفها. والدليل على ذلك أن عدداً كبيراً من
كبار المبدعين المصريين ينحدرون في الواقع من هذه المجتمعات المحلية ونجحوا
بجهودهم الفردية في تخطى حواجز الفقر وجمود البيئة لكى يصبحوا من بعد نجوماً لامعة
في سماء الفن والآدب والفكر!