الحديث
عن طموح تأسيس «الدولة الديمقراطية العصرية» فى مصر بقدر ما يستلزم من اهتمام
بصياغة «نموذج» (Paradigm)
ديمقراطى له خصوصيته النابعة من عمق المكونات الفكرية والثقافية والاجتماعية
والحضارية بل والتاريخية للمجتمع المصري.
بقدر ما تفرض ضرورة وحتمية فهم خصائص العصر الذى
نعيش فيه، الذى يحرص كثيرون على تسميته «عصر ما بعد الحداثة» بينما يفضل أستاذنا
السيد يسين تسميته بـ «المجتمع المعلوماتى العالمى» باعتباره «وليداً شرعياً
للثورة الكونية»، التى أنهت «الأنساق المغلقة» للأفكار والنظريات كما فرضتها
«الحداثة» التى كانت أهم منتج لـ «الثورة الصناعية»، واستبدلتها الآن بـ «الأنساق
المفتوحة» القادرة على التوليف بين المتناقضات من الرؤى والأفكار والسياسات
والنظريات.
وفى
اعتقادى أن المسألة أكبر وأعمق من مجرد توليف بين المتناقضات مثل الحرية السياسية
والعدالة الاجتماعية، ومثل الملكية العامة والملكية الخاصة، ومثل القطاع العام
والقطاع الخاص ومثل الأمن الوطنى (الخاص بالدولة)، والأمن القومى (لدول تجمعها
رابطة القومية والهوية الواحدة) والأمن الإقليمى (لدول تقع فى إقليم جغرافى محدد
المعالم وله خصوصياته) والأمن العالمى (الكوني) بأطرافه المتعددة وقضاياه الواسعة
المتنوعة. فالتقدم لا يمكن أن يحدث فقط بتوليف الأفكار والمزاوجة بين المتناقضات،
ولكن يحدث نتيجة للتفاعل الجدلى بين «النموذج» الأعلى الذى يفرض نفسه وواقعه
المتجدد حسب ما تتحدث رؤية توماس كون عن كيف يتقدم العلم وكيف يحدث التقدم؟
مفهوم
«النموذج» (Paradigm)
يعرِّفه توماس كون بأنه «إجماع الباحثين والعلماء فى لحظة تاريخية محددة على طريقة
خاصة لوضع المشكلات، ومناهج محددة لبحثها.. وهذا النموذج الإرشادى أو القياسي- حسب
نظرية كون- تتآكل قدرته مع مرور الزمن على التصدى للمشكلات، فيسقط، وندخل فى مرحلة
يطلق عليها مسمى «أزمة النموذج» على نحو ما تحدثنا فى مقالنا السابق عن أزمة سقوط
النموذج الأمريكى للديمقراطية. فى غمار هذه الأزمة التى تتفاعل وتتصارع فيها الرؤى
والأفكار والاجتهادات يتركز البحث فى نقد النموذج القائم والتأسيس لنموذج بديل،
وعندما يظهر هذا النموذج الجديد كمحصلة لكل تلك الصراعات والتفاعلات الفكرية، يبدأ
فى فرض نفسه وأفكاره ورؤاه على الواقع، وتبدأ دورة جديدة من اشتباك النموذج
بالواقع يتفوق فيها النموذج أحياناً ويفشل فى أحيان أخري، وإذا ما طغى فشل النموذج
ودخل قسرياً فى أزمته، يبدأ البحث عن نموذج جديد، وهكذا يحدث التقدم عبر التفاعل
الجدلى بين النموذج بمقوماته والواقع بخصوصياته، ولذلك يمكننا أن نصف هذه العملية
من التقدم بأنها عملية قد يراها البعض تطوراً خطياً تصاعدياً، لكنها أيضاً تطوراً
خطياً متعرجاً بين الانحناء والصعود بين الفشل والنجاح.
لقد
عاش العالم معظم سنوات القرن العشرين وبالذات سنوات الحرب الباردة العالمية صراعاً
بين نموذجين يحرص كل منهما على أن يعلن نفسه النموذج الأفضل هما: النموذج
الرأسمالي- الليبرالى والنموذج الاشتراكى (الماركسي)، وعندما انهار الاتحاد
السوفيتى وجرى تفكيكه اعتقد أنصار النموذج الآخر الرأسمالى الليبرالى فى معتقدين
خاطئين، أولهما، أن سقوط الاتحاد السوفيتى ثم انهيار حلف وارسو معناه سقوط النموذج
الاشتراكى نهائياً، وثانيهما أن سقوط النظام الاشتراكى (افتراضياً) معناه الانتصار
النهائى للنموذج الرأسمالي- الليبرالى على نحو ما حاول عالم السياسة الأمريكى
فرانسيس فوكوياما فى مقالته الشهيرة بمجلة «المصلحة القومية» (National
Interest) التى حملت عنوان «نهاية التاريخ» التى
اعتبر فيها سقوط الاتحاد السوفيتى سقوطاً للنموذج الاشتراكى وانتصاراً نهائياً
للرأسمالية الليبرالية، ونهاية للصراع الأيديولوجى اعتقاداً منه أن الرأسمالية
الليبرالية سوف تتسيد العالم دون منافس أو منازع.
لم
يكن هذا الاعتقاد مجرد خطأ بل خطيئة علمية تتعارض كلية مع الفهم العلمى لمعنى
التقدم وكيف يحدث التقدم، وهذا ما أكده الواقع عندما تفجرت الأزمة العنيفة
للرأسمالية عام 2008 ودخل النظام الرأسمالى فى طريق مسدود، ما أدى إلى تراجع
فوكوياما نفسه عن مقولاته، وما دفع بالفكر الرأسمالى إلى أن يثور على نفسه للإصلاح
والتجديد.
بعض
مسارات الإصلاح هذه تأخذ شكل التوفيق أو التوليف بين بعض مقولات ورؤى النموذج
الرأسمالى بالنموذج الاشتراكى مثل المزج بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية،
ومثل مناقشة دور الدولة فى الاقتصاد والدعوة إلى مساحة ما محددة للدولة فى
الاقتصاد، انطلاقاً من قناعة مفادها أنه «لا ينبغى على السوق أن يسيطر على الدولة
أو المجتمع بعد إدراك لخطورة تحكم السوق فى الدولة، كما تأخذ المراجعة أيضاً فى
اعتبارها ضرورة إعادة قراءة مرتكزات «الحداثة» المعبرة عن المجتمع الصناعى التى لم
تعد تتوافق مع رؤى مجتمع ما بعد الحداثة أو «المجتمع المعلوماتى العالمي».
وإذا
كُنا نتحدث عن دور ريادى يمكن أن تقوم به مصر فى علاقتها بعالمها العربى فإن أبرز
ما فى هذا الدور أن تساهم مصر فى تقديم رؤية استراتيجية للعالم العربى تأخذ فى
اعتبارها منطق التغيرات العالمية ذات العلاقة بالأبعاد الأربعة لهذه الاستراتيجية
التى تضم نموذج الدولة الديمقراطية العصرية وبلورة نظام اقتصادى جديد يضع مصر ضمن
قائمة الدول المشاركة فى الإنتاج العالمي، وصياغة نظرية للأمن القومى العربى
وعلاقته بالأمن الإقليمى تكون قادرة على حل أزمات وإشكاليات الأمن الوطنى للدول
العربية وتحقيق توازن مصالح فى علاقة الأمن القومى بالأمن الإقليمي، وأخيراً إيجاد
حلول جادة لعلاقة الإسلام السياسى بالسلطة والحكم، وتقديم منظور عصرى وحضارى
للإسلام يؤمن بالتجدد الحضارى للأمة العربية، ومصر مطالبة، وهى تأخذ فى اعتبارها
ما يموج الآن فى العالم من مراجعات للفكر الديمقراطى وللنظام الرأسمالي، أن فى
مقدورها أن تشارك فى الإبداع، وأن تقدم إسهامات رائدة وثرية فى بلورة وصياغة نموذج
عصرى للديمقراطية يعبر عن روح العصر بأفكاره الجديدة بعد أن يتجاوز أزمة النموذج
الديمقراطى الغربي، شرط أن يأخذ فى اعتباره خصوصية المجتمع المصرى والمجتمعات
العربية وعلاقتها بالحكم والسياسة من منظور تاريخى اجتماعي.
فما
نعيشه الآن من ديمقراطية فى مصر هو محصلة ما استطاعت نخبة عصر التنوير والإصلاح
اقتباسه من الفكر الديمقراطى الرأسمالى الليبرالي، وما أضافته البيروقراطية المصرية
من إبداعاتها الاستبدادية التى فرّغت المفهوم من كل مضامينه، وخاصة ما يتعلق بـ
«الديمقراطية التمثيلية». ففضلاً عن نجاح النموذج الديمقراطى المصرى المقتبس من
الغرب فى ترسيخ «ديمقراطية من يملكون» أو «ديمقراطية من يملكون أكثر»، فإن
البيروقراطية المصرية فى دولة الأمن والاستبداد والفساد استطاعت بتفوق حرمان الشعب
من انتخاب واختيار من يحكمونه ومن يمثلونه، وقامت هى بالمهمة كلها نيابة عنه. ولن
نستطيع الآن، بعد الثورة، أن نؤسس لنموذج ديمقراطى عصرى إلا بإسقاط هذا النموذج
السلطوى السائد الذى استلب من الشعب أهم حقوقه ومكتسباته.