عظيم
جداً أن يكون لدينا حرص شديد على تحديث نظامنا الديمقراطى بعد ثورتى 25 يناير 30
يونيو لكن يجب أن نأخذ فى اعتبارنا ثلاثة أمور شديدة الأهمية أولها محصلة ما يحدث
الآن من مراجعات نقدية فى المجتمعات الغربية، وخاصة فى الولايات المتحدة
الأمريكية، لنموذج «الديمقراطية الليبرالية» وليدة النظام الرأسمالى التقليدي، وهى
مراجعات فرضتها انتكاسات مزدوجة أبرزها انتكاسات ناتجة عن الأزمات المتلاحقة
للنظام الرأسمالى الليبرالى وتوحش اقتصاديات السوق وطغيانها على النظم السياسية،
وانتكاسات أخرى ناتجة عن التطبيقات الخاطئة لنموذج «الديمقراطية التمثيلية» التى
تجعل من الانتخابات أهم أدواتها حيث أسيء عملياً جعل الانتخابات وسيلة مبدعة
لاختيار ممثلين حقيقيين للشعوب فى البرلمانات بسبب الدور التخريبى لـ «المال
السياسي» الذى ساهم فى تزييف إرادة الناخبين.
الجديد
فى هذه المراجعات الهادفة إلى إصلاح الديمقراطية الغربية تسير فى اتجاهين أولهما،
الحد من هيمنة السوق الاقتصادية على السياسة وإعطاء الدولة دوراً مركزياً فى
الاقتصاد الوطنى بهدف الحد من هيمنة من يملكون على السياسة، وثانيهما، دعم قاعدة
الناخبين اقتصادياً من خلال «تحرير إرادة الناخبين» بالتوجه إلى نموذج
«الديمقراطية الاجتماعية» بدلاً من نموذج «الديمقراطية الليبرالية» الذى زيف
المضمون الحقيقى للديمقراطية.
الأمر
الثانى الذى يجب أن نأخذه فى الاعتبار هو محصلة التجربة التاريخية للديمقراطية فى
مصر المعاصرة، التى تعد تعبيراً عن الخصوصية المصرية النابعة من عمق المكونات
الفكرية والثقافية والاجتماعية والحضارية للمجتمع المصري. فقد عاشت مصر فى النصف
الأول من القرن العشرين، وبالتحديد ابتداءً من عام 1924 (مع انتخاب أول برلمان
مصرى بعد ثورة 1919 وإقرار دستور عام 1923) ما يمكن اعتباره حكماً ديمقراطياً
ليبرالياً، تأسست مرتكزاته فى نصوص دستور 1923 وفى وجود طبقة حاكمة من كبار ملاك
الأراضى الزراعية وكبار رجال المال والصناعة (طبقة أصحاب المصالح الحقيقية الذين
كانوا يملكون 99.5% من الثروة الوطنية المصرية) وهؤلاء لم يكن عددهم يزيد على نصف
فى المائة من عدد المصريين.
هذه
الديمقراطية كانت ديمقراطية من يملكون، ولم يكن فى مقدور الفلاحين والعمال أن
يكونوا شركاء فى الحكم لا بالحصول على عضوية البرلمان (مجلس النواب أو مجلس
الشيوخ) ولا فى أن يكونوا وزراء. حيث كانت طبقة كبار الملاك الزراعيين والماليين
والصناعيين هى المسيطرة ويمكننا أن نشير هنا إلى أن حزب الوفد مثلاً الذى كان
يعتبر قيادة شعبية مقارنة بالأحزاب الأخرى المحسوبة على طبقة الأثرياء سيطر كبار
ملاك الأراضى على نسبة عالية جداً من أعضائه فى البرلمان المصرى وفى الحكومات التى
قام بتشكيلها ناهيك عن كبار رجال المال والصناعة. فلم يقل متوسط نسبة كبار الملاك
بين أعضاء حزب الوفد داخل مجلس النواب فى الفترة من 1924- 1952 عن 80%. ولم يختلف
الأمر كثيراً بالنسبة للحكومات التى شكلها الوفد حيث لم تقل نسبة كبار الملاك
الزراعيين فى تلك الوزارات عن 60% والباقى سيطر عليه كبار رجال المال والصناعة إلى
جانب عدد محدود من أبناء الطبقة الوسطي.
هذا
النموذج الديمقراطى الإقصائى للطبقات الشعبية خاصة الفلاحين والعمال أسقطته ثورة
23 يوليو التى جاءت لتنتصر لهؤلاء بإعطاء الأولوية لمطلب العدالة الاجتماعية الذى
كان قد فرض نفسه بقوة فى السنوات الأخيرة التى سبقت تفجر الثورة. فقد أراد قادة
الثورة تأسيس نموذج ديمقراطى يجعل الفلاحين والعمال والطبقات الشعبية شركاء فى
الحكم عن طريق إعطاء الأولوية للعدالة الاجتماعية وبتأسيس تنظيمات سياسية هدفها
تحقيق المشاركة السياسية الواسعة للطبقات الشعبية بعيداً عن سلبيات الأحزاب
السياسية والديمقراطية الليبرالية، لكن الدولة البيروقراطية- التسلطية أساءت
كثيراً إلى هذه التجربة وحالت دون تحقيق التوازن المطلوب بين الديمقراطية السياسية
والديمقراطية الاجتماعية، وجاء الانقلاب على ثورة 23 يوليو ابتداءً من مايو 1971
ليعود مجدداً بنظام السوق الرأسمالية ليسيطر على الحياة السياسية وليفرض نموذج
ديمقراطية ليبرالية مزيفة سيطرت عليها الأجهزة الأمنية وطبقة رجال الأعمال ما أدى
مجدداً إلى تهميش الطبقات الشعبية وتأسيس دولة تسلطية مستبدة وفاسدة فرغت تلك
التجربة الديمقراطية من كل مضامينها.
الأمر
الثالث الذى يجب أن نأخذه فى الاعتبار أن الشعب المصرى الذى أسقط نظام الاستبداد
والفساد بثورة 25 يناير والذى أنهى التسلط الإخوانى على الدولة بثورة 30 يونيو لن
يقبل أبداً بعودة نظام الاستبداد والفساد ولن يقبل أبداً بديمقراطية مزيفة تعيد
سيطرة من يملكون أو تعيد سيطرة الدولة التسلطية الأمنية على الحكم وتحول دون سيطرة
الشعب على السلطة وعلى الثروة وأدوات الإنتاج معاً.
الوعى
بهذه الأمور الثلاثة ونحن نؤسس لنظامنا الديمقراطى الجديد، يؤكد أن نظام
«الديمقراطية الاجتماعية» القادرة على المزج بين الحريات السياسية والعدالة
الاجتماعية هو الحل فهو خلاصة التجربتين الغربية والمصرية معاً، لكن هذا النظام فى
حاجة إلى توافر شروط ومطالب كثيرة مهمة الآن أولها، إصلاح النظام الانتخابى وضمان
عدم تزييف الانتخابات بالقضاء نهائياً على الأدوار التخريبية التى يلعبها «المال
السياسي» و»الأجهزة الأمنية»، وتعديل قانون الانتخابات الجديد وخاصة مسألة القوائم
الإقصائية المغلقة، وتوفير الظروف المناسبة لضمان المشاركة السياسية الواسعة
للطبقات الشعبية من فلاحين وعمال على وجه الخصوص الذين يواجهون مظالم هائلة تحول
دون دمجهم الجاد فى الحياة السياسية.
من
بين هذه المظالم ما يعانيه ملايين الفلاحين فى التعامل مع الجمعيات الزراعية وبنك
التسليف الزراعى وما يعانيه مئات الآلاف من عمال الزراعة فى قطاع التشجير الذين لم
يتقاضوا رواتبهم الشهرية منذ 1/7/2008 وحتى الآن، ولم يتم تعيينهم والتأمين عليهم
وهؤلاء يعولون مئات الآلاف من الأسر الفقيرة التى تعانى الغلاء وانعدام الخدمات الطبية
ورداءة العملية التعليمية وتكاليفها الباهظة. أنا شخصياً أتابع 81 من هذه الحالات
فى قريتى (الروضة- بركة السبع) وعجزت عن إنصافهم عندما كنت نائباً عن هذه الدائرة
فى البرلمان السابق لسوء الأحوال الاقتصادية والسياسية فى تلك الفترة ولم يعد
ممكناً بقاء أحوال هؤلاء على ما هى عليه ونحن نأمل فى نظام وطنى ديمقراطي.
هناك
أيضاً مظالم هائلة لقطاعات عمالية واسعة من أبرزها مظالم عمال صناعة النسيج، على
وجه الخصوص وبالذات المصانع والورش الصغيرة التى تواجه التهديد بالإفلاس بسبب
الأبواب المفتوحة لتهريب أطنان من الملابس الواردة من الخارج دون جمارك أو ضوابط
وبسبب غزو للأسواق بأقمشة مستوردة من الصين تدخل مصر باعتبارها مواد خاما للتصنيع
لا يدفع مستوردوها أى جمارك وتباع فى الأسواق بأسعار أقل من سعر تكلفة المنتج
المصري، الأمر الذى من شأنه أن يؤدى إلى إغلاق آلاف المصانع الصغيرة المهددة أكثر
بسبب الانقطاع المتواصل للكهرباء الأمر الذى يفقد آلاف العمال فرص عملهم. المظالم
كثيرة التى تعانيها قطاعات واسعة من أبناء شعبنا، مظالم تهدد أى معنى نريده
للعدالة الاجتماعية التى يجب أن تكون قاعدة التأسيس لنظامنا الديمقراطى الذى نريده
ونأمله. نقلا عن الأهرام