سبق
لي في كتابي «الوعي التاريخي والثورة الكونية» الصادر عن «مركز الدراسات السياسية
والاستراتيجية» عام 1996 أن أكدت على التغيرات العميقة التي لحقت ببنية المجتمع
العالمي والتي تتعلق أساساً بالانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع
المعلومات العالمي، الذي يتحول – ببطء وإن كان بثبات – إلى مجتمع المعرفة، مرافقاً
في ذلك صعود ما يطلق عليه «اقتصاد المعرفة» حيث ستصبح المعرفة هي المولدة الرئيسية
للثروة.
وقد
أطلقت على مجمل التحولات التي شهد العالم ملامحها وقسماتها البارزة الثورة
الكونية. وهي في تقديري ثورة مثلثة الأبعاد فهي أولاً ثورة سياسية تتعلق بالانتقال
من الشمولية والسلطوية إلى الديموقراطية، وهي ثانياً ثورة قيمية يبرز فيها
الانتقال من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية، وهي ثالثاً وأخيراً ثورة معرفية
تقوم على أساس الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.
وأريد
هنا أن أستعيد ما ذكرته من قبل عن إشكاليات الثورة السياسية خصوصاً في العالم
العربي، حيث تسود الشمولية والسلطوية، في ما يتعلق بضرورة التفرقة بين إجراءات
الديموقراطية وقيم الديموقراطية، والتي خالفتها بشكل صارخ جماعة «الإخوان
المسلمين» حين صعدت بعد انتخابات ديموقراطية إلى قمة السلطة في مصر.
وليس
هناك من شك في أنه يمكن تلخيص الثورة السياسية التي تجتاح العالم في مجال النظم
السياسية في عبارة واحدة مبناها أنها انتقال حاسم من الشمولية والسلطوية إلى الديموقراطية.
ويمكن
القول إنه حوالي منتصف الثمانينات حدث تحول ملحوظ لصالح الديموقراطية، في مجال
الأفكار وفي مجال الوقائع على السواء، في سياق الحساسيات الشعبية، وكذلك في نظر
المفكرين والقادة السياسيين.
ومن
هنا تثار تساؤلات متعددة: كيف ولماذا حدث التغير؟ وهل مقدّر له الدوام، وهل سيتاح
له أن يعمق تيار الديموقراطية في العالم؟ وهل هو يستند إلى مفاهيم واضحة، وهل
ستطبق بجدية ونزاهة، أم أن الديموقراطية ترتكز إلى أفكار غامضة، غير متماسكة
وزائفة، ليس من شأنها أن تكون سوى خدعة جديدة من شأنها أن توقع الإنسانية في حبائل
عبودية من نوع جديد؟
هذه
التساؤلات المتعددة يثيرها المفكرون الغربيون، وهم يرصدون اتساع نطاق الديموقراطية
في العالم، ليس فقط في بلاد أوروبا الشرقية، والتي كانت ترزح تحت وطأة النظم
الشمولية، وتحررت منها تماماً، ولكن أيضاً في بلاد العالم الثالث، والتي شرعت في
الانتقال من السلطوية إلى الديموقراطية بخطوات متدرجة أو من خلال الثورة الشاملة.
ومن بين القضايا المهمة التي تثار في هذا الصدد: هل يمكن تصدير الديموقراطية؟ إن
بعض الباحثين الغربيين المحافظين ممن ما زالوا يعتقدون – تحت تأثير أفكار المركزية
الأوروبية – أن الديموقراطية الغربية نظرية متكاملة، ويمكن تصديرها إلى مختلف
الشعوب، يقعون في خطأ جسيم، ذلك أنه ليست هناك نظرية وحيدة للديموقراطية تتسم
بالتناسق الداخلي، ويمكن بالتالي نقلها وتطبيقها كما هي في أي سياق اجتماعي، وفي
أي مرحلة تاريخية. ذلك أن الديموقراطية – كما نشأت تاريخياً في المجتمعات الغربية
– تأثرت في نشأتها وممارستها تأثراً شديداً بالتاريخ الاجتماعي الفريد لكل قطر
ظهرت فيه.
ومن
ثم نحتاج – في العالم الثالث بشكل عام، وفي الوطن العربي بوجه خاص– ونحن ما زلنا
نمر الآن في مرحلة الانتقال من السلطوية إلى الديموقراطية، إلى أن نفكر في النموذج
الديموقراطي الذي علينا أن نتبناه، والذي يتفق مع الأوضاع الثقافية والاقتصادية
والسياسية السائدة في الوطن العربي.
ونجد
في هذا الصدد اتجاهين رئيسيين: اتجاه الأنظمة السياسية العربية، واتجاه المثقفين
العرب الممثلين للتيارات السياسية المختلفة. أما اتجاه الأنظمة العربية – على وجه
الإجمال – فهو الانتقال من السلطوية إلى التعددية المقيدة، وبخطى وئيدة ومتدرجة.
وتساق في هذا السياق حجج شتى، سواء ما تعلق منها بضرورة الحفاظ على الأمن القومي،
كما تعرفه هذه الأنظمة، أو بأهمية الحفاظ على السلام الاجتماعي والاستقرار
السياسي.
ومن
ناحية أخرى، فإن اتجاه المثقفين العرب – على وجه الإجمال أيضاً – يميل إلى توسيع
الدائرة، والوصول إلى تعددية مطلقة لا تحدها أي حدود، حيث يباح إنشاء الأحزاب
السياسية بلا قيود، وتمارس الصحافة حريتها بغير رقابة، وتنشأ مؤسسات المجتمع المدني
بغير تعقيدات بيروقراطية.
غير
أن المشكلة الحقيقية لا تكمن في الوقت الراهن في الصراع بين الأنظمة السياسية
وتيارات المعارضة، مع أهمية هذا الصراع، ولكنها تتمثل في الصراع العنيف داخل جنبات
المجتمع المدني ذاته، بين رؤيتين متناقضتين: رؤية إسلامية احتجاجية متطرفة، تريد
إلغاء الدولة العربية العلمانية، وتهدف محو التشريعات الوضعية، وتسعى إلى إقامة
دولة دينية لا تؤمن بالتعددية، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. أما الرؤية
المضادة فهي الرؤية العلمانية بكل تفريعاتها، والتي تؤمن بفصل الدين عن الدولة
وتعتقد أن التشريعات الوضعية ينبغي أن تكون هي أساس البنيان الدستوري والقانوني،
مع الحرص على ألا تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، كل ذلك في إطار التعددية
السياسية، والتي لا ينبغي أن تفرض عليها قيود.
وهناك
رأي يقول إنه في مجال الديموقراطية، ينبغي التفرقة بين إجراءات الديموقراطية وقيم
الديموقراطية.
وفي
تصورنا أنه في مرحلة الانتقال من السلطوية إلى التعددية، لا بد من إجراء حوار وطني
واسع ومسؤول، بين الفصائل والتيارات السياسية كافة، للوصول إلى ميثاق يحدد قواعد
العملية الديموقراطية، وينص على تراضي الأطراف كافة بالاحتكام، ليس فقط لإجراءات
الديموقراطية، وإنما لقيمها أيضاً. غير أن هذا الميثاق لكي يطبق بصورة واقعية،
ينبغي أن يتضمن من الآليات، ما يسمح بعدم الخروج على الشرعية الدستورية، إذا ما
أتيح لتيار سياسي معين أن يحصل على غالبية في الانتخابات. ويمكن التفكير في هذا
الصدد، في إنشاء مجموعة من الأجهزة الدستورية التي تراقب العملية الديموقراطية،
وتمنع الخروج على قواعدها.
بعبارة
مختصرة نحتاج في الوطن العربي إلى إبداع فكري لصياغة نموذج ديموقراطي صالح
للتطبيق، لا يكون نقلاً آلياً لقواعد الديموقراطية الغربية من ناحية، ولا يخضع من
ناحية أخرى للمواضعات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الناجمة عن التخلف السائد.
نموذج ديموقراطي يتجه إلى المستقبل، بل ويعمل على تطوير الأوضاع القائمة، حتى نضمن
أوسع مشاركة جماهيرية في عملية اتخاذ القرار.
ولو
طبقنا التفرقة السابقة بين آليات الديموقراطية وقيم الديموقراطية على الحالة
المصرية لاكتشفنا أن فصيلاً أيديولوجياً يرفع شعار «الإسلام هو الحل» وهم «الإخوان
المسلمون» أباحوا لأنفسهم شراء الأصوات الانتخابية بناء على فتوى «إخوانية» قالت
أن ليس في ذلك حرج، لأن العملية هي تكتيك انتخابي! وإذا أضفنا إلى ذلك تأثير
القبلية والعصبيات في الريف على وجه الخصوص على اختيار المرشحين، واستخدام العنف
والبلطجة للتأثير في المرشحين والناخبين، لأدركنا أن قيم الديموقراطية قد أهدرت
بشكل صارخ.
وهذا
هو الذي يجعلنا نبحث ليس عن تأثير التحولات الديموقراطية على الأوضاع الاجتماعية
والثقافية، ولكن العكس، بمعنى تأثير الأنساق الاجتماعية والقيم الثقافية السائدة
على مجمل اتجاهات التحول الديموقراطي، ما يجعلنا نؤكد مرة أخرى أن منهجية التحليل
الثقافي ينبغي أن تسبق في التطبيق منهجية التحليل السياسي.