بدأ يتصاعد فى المجتمع الوعى بخطورة
ظاهرة التخلف الثقافى السائدة. وهذا التخلف يأخذ صوراً شتى تبدأ بالتطرف الدينى
والتعصب المذهبى وعدم الاعتراف بالآخر المختلف دينياً وتنتهى بالإرهاب الصريح الذى
يوجه سهامه الغادرة ليس ضد السلطة ورموزها من قوات الشرطة والقوات المسلحة فقط
ولكن ضد الشعب بوجه عام.
ومما لا شك فيه أن حكم جماعة الإخوان
المسلمين الإرهابية كشف بوضوح وجلاء عن سلبيات التخلف الثقافى التى ظهرت فى ممارسة
قيادات الجماعة بعد أن حكموا مصر فى غفلة من الزمن، وذلك لخلطهم المعيب بين الدين
والسياسة.
ويمكن القول إن التيارات السلفية
بتياراتها المختلفة تعد رمزاً صريحاً للتخلف الثقافى. وذلك لأن مشايخ السلفية
دأبوا على إصدار فتاوى دينية متطرفة تدل على جهل عميق بمقاصد الإسلام نتيجة تأويل
منحرف للآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وهذه التيارات السلفية التى كونت
أحزاباً سياسية لا يجوز وفقاً للدستور السماح لها بالعمل بالسياسة، لأنها تصدر عن
مبادئ متخلفة تعكس الرغبة الدفينة فى العودة إلى أخلاقيات القرون الوسطى،
باعتبارها هى النموذج الأمثل للحياة المعاصرة. وقد دارت فى الفترة الأخيرة نقاشات
متعددة حول ما صرح به الإعلامى المعروف «إبراهيم عيسى» فى أحد البرامج
التليفزيونية حول انكار عذاب القبر والمرويات غير الصحيحة بصدده والتى تتناقلها
الأصوات الدينية التقليدية جيلاً بعد جيل بغير تمحيص، ودون تطبيق القواعد الصحيحة
فى تفسير الآيات والأحاديث وتأويلها فى ضوء مبادئ أصول الفقه. وقد نشر أن
الاحتجاجات على ما قيل أدت إلى أن يبحث المجلس الأعلى للبحوث الإسلامية هذا
الموضوع ليقطع فيه برأى.
ويمكن القول إن متابعتى لبرامج الأستاذ
«إبراهيم عيسى» تثبت أنه قارئ جيد للتراث الإسلامى فى مظانه ومصادره الأصيلة، ولديه
رؤية صافية فى مجال التمييز فى هذا التراث بين الطيب والخبيث، وبين الباطل
والصحيح. وهو من خلال عرضه لبعض فصول التاريخ الإسلامى المضيئة يحاول إنقاذ روح
الإسلام الحقيقية التى تحض على الحرية والتسامح والقبول بالآخر من جهالات المشايخ
التقليدية الذين لا يجيدون سوى النقل من الكتب الصفراء القديمة الزاخرة بالأساطير
والخرافات بغير إعمال العقل.
وهذه الحقيقة هى التى تمنع فى الواقع
المؤسسات الدينية التقليدية من إنتاج خطاب إسلامى وسطى. فالمشايخ الذين اختاروا
التقليد لا التجديد لا يستطيعون تجاوز عتبة التفسيرات الدينية التقليدية والتى
تنزع أحياناً إلى محاولة الإقناع باللا معقول من ناحية، أو تحاول استعادة قيم
أزمان ماضية وسلوكيات فترات تاريخية قديمة، لكى تطبق فى زمان غير الزمان وحياة غير
الحياة. وقد لفت نظرى بشدة المقال الذى نشره الأستاذ «إبراهيم عيسى» فى «يوميات
الأخبار» بتاريخ «8 أغسطس 2014» بعنوان له دلالة هو «أهم من مشروع قناة السويس
الجديدة»، لأنه يتضمن تشريحاً دقيقاً لظواهر التخلف الثقافى والجمود الدينى الذى
يمنع إنتاج خطاب إسلامى وسطى. وهو يشير فى البداية إلى ما ذكره الرئيس «عبد الفتاح
السيسى» فى حفل تنصيبه من أهمية تجديد الخطاب الدينى كضرورة مهمة من ضرورات تغيير
وتطوير الواقع المصرى.
غير أن هذه الدعوة من قبل الرئيس لم تجد
أى استجابة من قبل الأزهر كمؤسسة، أو من قبل المشايخ الذين يحتكرون الحديث باسم
الدين على أساس أنه تخصصهم الدقيق.
بعبارة أخرى تجديد الخطاب الدينى يحتاج
إلى مجموعة إجراءات متكاملة لم يقدم أحد على اتخاذ الخطوة الأولى فى سبيل تنفيذها.
ويطرح الأستاذ «إبراهيم عيسى» فى هذا
المجال مجموعة أسئلة حاسمة هى أولا هل تمت مراجعة مناهج المعاهد والكليات الأزهرية
التى قدمت لنا كل هؤلاء الطلبة الإرهابيين والإخوان الذين استباحوا الدم والدين؟
والإجابة لا. «هل تمت مراجعة مناهج الدين والتاريخ واللغة العربية والتربية
الوطنية فى مراحل التعليم العام؟ والإجابة لا «هل عدنا إلى رسائل الماجستير
والدكتوراه فى «الأزهر» و«دار العلوم» لنتعرف على كيف تم الغزو المتطرف لرءوس
هؤلاء المنسحقين أمام إسلام البترو دولار؟
ويمكن القول إن أحد جذور المشكلات
الراهنة تتمثل فى هجرة الألوف من المواطنين المصريين إلى البلاد العربية التى
تسودها الاتجاهات الدينية التقليدية المولدة للتطرف، سواء فى نسق القيم الذى
يتبناه الإنسان أو فى سلوكه الاجتماعى، وحتى فى طريقة ملبسه. بعبارة مختصرة العقل
التقليدى الذى يكتسبه هؤلاء المهاجرون هو الذى يوجه سلوكهم حين يعودون إلى أرض
الوطن ينشرون فيه الأفكار الدينية المتشددة، ويدعون للحجاب والنقاب وإطالة اللحية،
وكل هذه المفردات ليست فى الواقع من أصول التدين الصحيح.
ولكن بالإضافة إلى كل
ذلك نعرف أنه فى عصر الرئيس «السادات» -الذى هادن فيه جماعة الإخوان المسلمين
الإرهابية وفتح الباب لعودة مئات المتشددين الدينيين الذين كونوا من بعد جماعات
إسلامية إرهابية مثل جماعة «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية»- تم إغداق الأموال
الخليجية لنشر المعاهد الأزهرية ببرامجها التقليدية مضافاً إليها الاتجاهات
السلفية المتشددة، وكذلك تمويل جمعيات دينية متعددة أصبحت عبر السنين «مفارخ»
للعناصر المتشددة التى تحولت من بعد إلى الإرهاب الصريح.
ويثير الأستاذ «إبراهيم عيسى» نقطة
بالغة الأهمية وهى أن من هاجموه بصدد الآراء التى أعلنها مؤخراً ادعوا أنه ليس من
حقه أن يتحدث فى أمور الدين لأنه ليس متخصصاً وأنه كاتب صحفى. وفى رده عليهم قرر
حقيقة تاريخية وهى أن من جددوا فى دراسة التراث الإسلامى كانوا صحفيين، ومن أبرزهم
«عباس محمود العقاد» صاحب العبقريات، و«محمد حسين هيكل باشا, صاحب حياة محمدً
و«مصطفى محمود» و«عبدالرحمن الشرقاوى» أصحاب المؤلفات المستنيرة فى التاريخ
الإسلامى.
غير أن الحجة الدامغة التى ينبغى رفعها
فى وجه كل من يزعم أن المتخصصين فى الدين لهم حق احتكار الحديث فيه، هو أن هناك
مبدأ معترفا به حتى بالنسبة لأعتى المشايخ التقليديين وهو أنه «لا كهانة فى
الإسلام»، بمعنى أنه ليس هناك من يسمون «رجال دين» من حقهم احتكار الحديث باسمه.
بل إن هناك شروطاً وضعها الفقهاء القدامى عن أصول الاجتهاد فى الدين، والشروط التى
ينبغى أن تتوافر فى المجتهد.
لكل ذلك من حق أى كاتب أو مفكر أو باحث
أن يجتهد فى تفسير وتأويل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مادام متملكاً ناصية
«أصول الفقه» التى تتيح له أن يتسلح بالقواعد المنهجية الدقيقة. وهذه هى الدعوة
التى دعونا لها فى دراستنا المنشورة فى الأهرام بتاريخ «9 أغسطس 2014» بعنوان
«رؤية لسياسة ثقافية لمصر»، حيث نادينا بفتح باب الاجتهاد لكل قادر عليه لإبراز
قدرة المبادئ الإسلامية فى تفسيرها الصحيح على أن تكون مواكبة لروح العصر.