بينما
كان الرئيس عبد الفتاح السيسى يتوجه إلى المملكة العربية السعودية فى زيارة اعتبرت
«زيارة تأسيسية» لمنظومة جديدة فى علاقات مصر العربية والإقليمية، وهى الزيارة
التى سبقت زيارة سيادته لروسيا بما لا يزيد عن أربع وعشرين ساعة،
كان
الصحفى الأمريكى توماس فريدمان (يهودى صهيونى من أصل روسي) صاحب المقال الافتتاحى
الشهير فى صحيفة نيويورك تايمز يكتب عن لقائه بالرئيس الأمريكى باراك أوباما وركز
على فقرة شديدة الأهمية فى هذا اللقاء تحدث فيها أوباما على أن الشرق الأوسط يموج
هذه الأيام بتفاعلات توحى بأن خرائط جديدة بديلة عن خرائط «سايكس بيكو» ربما تفرض
نفسها على المنطقة.
وعندما
كانت الصحف الروسية تحتفى بحرارة بزيارة الرئيس المصرى وتتحدث عن حفاوة استقباله
من جانب الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى «سوتشي» المنتجع الصيفى للقيادة الروسية
وعن المستقبل الواعد للعلاقات بين روسيا ومصر فى مجالات التعاون الاقتصادى
والعسكري، على وجه الخصوص، ضمن مجالات أخرى كثيرة واعدة، انشغل الأمريكيون على
مستوى دوائر صنع القرار ومراكز البحوث والصحافة بالتأثيرات المحتملة لزيارة الرئيس
السيسى لروسيا على علاقات مصر بالولايات المتحدة، لكن الأهم هو تأثيرها على مستقبل
العلاقة بين مصر وإسرائيل، وعلى الأخص من منظور مدى قدرتها على إحداث تغيير فى
توازن القوى الراهن الذى يعمل لصالح إسرائيل والذى يؤمن لإسرائيل قدرة «الردع
المتفوق» على مصر وعلى أى دولة أخرى فى المنطقة.
فقد
اعتبرت واشنطن بوست أن «السيسى يسعى إلى تشكيل مستقبل مصر من جديد بعيداً عن نطاق
نفوذ الولايات المتحدة» وأن السيسى «اختار روسيا وبوتين عوضاً عن أمريكا» التى
قلصت دعمها العسكرى لمصر انطلاقاً من انحيازها لـ «الإخوان المسلمين».
أما
الموقع الإلكترونى لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى (القريب من عقل الإدارة
الأمريكية والمنحاز بالمطلق لإسرائيل) فقد عرض ورقة بحثية لاثنين من خبرائه تحدثت
عن مخاوف من احتمال أن تؤدى الصفقات العسكرية التى أبرمتها القاهرة مع موسكو إلى
«إضعاف التفوق النوعى العسكرى لإسرائيل» وانعكاسات ذلك على «إضافة عامل إثارة آخر
فى العلاقات المصرية الأمريكية».
المعروف
أن الولايات المتحدة ظلت حريصة، وفى ظل الإدارات الأمريكية السابقة والإدارة
الحالية، على ضمان التفوق العسكرى النوعى لإسرائيل على كل الدول العربية من خلال
إمداد إسرائيل بأسلحة عالية التفوق والكفاءة من ناحية، ومن خلال حرمان أى من الدول
العربية، وفى مقدمتها مصر والسعودية، من الحصول على أى سلاح أمريكى قادر على تهديد
إسرائيل من ناحية أخرى فى وقت كانت فيه الولايات المتحدة هى المصدر الرئيسى لتسليح
هذه الدول.
والمعروف
أيضاً أن مصر والدول العربية الأخرى الحليفة للولايات المتحدة لم تتمرد على هذه
السياسة ولم تسع بجدية لتجاوزها، بالسعى إلى الحصول على أسلحة متفوقة من أى مصدر
تسليحى آخر يمكنها هى الأخرى من امتلاك «قدرة ردع متفوقة» قادرة على موازنة قدرة
الردع الإسرائيلية. لكن ما هو أخطر وما هو أهم، أن مصر ظلت، وعلى مدى أكثر من
ثلاثة عقود، ملتزمة بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التى تمثل أحد أهم ضمانات
الأمن الإسرائيلى فى جبهته الجنوبية لأن هذه المعاهدة حيَّدت تماماً هذه الجبهة
بإبعادها الجيش المصرى خارج الإطار الجغرافى لشبه جزيرة سيناء وسمحت فقط بوجود
عسكرى مصرى رمزى فى المنطقة المعروفة باسم «المنطقة أ» المحاذية للشاطئ الشرقى
لقناة السويس.
من
هنا جاءت المخاوف الأمريكية من زيارة الرئيس السيسى لروسيا من منظورين أولهما أن
تنجح مصر فى تنويع مصادر السلاح، وأن تحصل من روسيا على أسلحة متقدمة قادرة على
تمكين مصر من تحقيق «توازن ردع» مع إسرائيل ومن ثم تنهى أسطورة التفوق العسكرى
النوعى الإسرائيلي. وثانيهما الخوف من أن تنجح روسيا فى أن تجعل من نفسها حليفاً
جديداً لمصر يمكن أن يكون بديلاً للحليف الأمريكي، ويمكن أن يشجعها مستقبلاً على
فتح ملف تعديل معاهدة السلام شديدة الانحياز لمتطلبات الأمن الإسرائيلى على حساب
الأمن القومى المصرى ومتطلباته خاصة فى ظل ظهور تهديدات حقيقية من جانب الجماعات
والمنظمات التكفيرية والإرهابية التى يتأكد يوماً بعد يوم جدية علاقاتها
وارتباطاتها مع الولايات المتحدة ودوائر استخباراتية أخرى غربية وإقليمية لا
يستبعد أن تكون إسرائيل أحد أهم أطرافها.
هذه
المخاوف الأمريكية من النتائج المحتملة لزيارة الرئيس السيسى لروسيا، سوف تتفاقم
حتماً بزيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين المرتقبة لمصر للأسباب السابقة ولسبب
آخر لا يقل أهمية وهو تخوف واشنطن من ظهور فرصة مواتية لتأسيس تحالف إقليمى جديد
فى الشرق الأوسط يضم مصر والسعودية وروسيا لمحاربة الإرهاب المدعوم أمريكياً،
والذى فضحته المعلومات الواردة فى المؤلف الجديد لوزيرة الخارجية الأمريكية
السابقة هيلارى كلينتون بعنوان: «خيارات صعبة» والذى ألمحت فيه عن دور أمريكى فى
تأسيس تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» المعروف باسم «داعش» والذى يؤسس
الآن لدولة «الخلافة الإسلامية» فى المناطق السنية فى سوريا والعراق.
هذا
الدور ليس جديداً على الولايات المتحدة وليس فى حاجة إلى تأكيد أو نفى ما ورد فى
مؤلف هيلارى كلينتون فالمؤكد أن الولايات المتحدة هى التى أسست تاريخياً تيار
الجهادية التكفيرية لمحاربة الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان. فتنظيم القاعدة بقيادة
أسامة بن لادن أسسته المخابرات الأمريكية بالتنسيق مع المخابرات الباكستانية
وأجهزة مخابرات عربية خليجية، والولايات المتحدة هى التى شجعت دخول تنظيم القاعدة
وتفريعاته فيما بعد إلى العراق ثم إلى سوريا خاصة تنظيم «جبهة النصرة» (الامتداد
الرسمى للقاعدة فى سوريا) و»داعش» و»الجبهة الإسلامية» وهى التنظيمات التى تقاتل
ضد الجيش السورى وتهدد أمن العراق ولبنان والأردن ومصر والسعودية ودول عربية أخري،
لكن الجديد فى هذا الدور الأمريكى الداعم للمنظمات الإرهابية أنه يأتى مقترناً
بتجديد الدعوة الأمريكية لإعادة تقسيم الدول العربية وإقامة نظام شرق أوسطى جديد
بديلا لنظام معاهدة «سايكس بيكو» التى قسمت العالم العربى عام 1916 بإرادة
بريطانية فرنسية على نحو ما جاء على لسان الرئيس أوباما فى حواره مع توماس
فريدمان.
الأمر
المؤكد أن الحرب على الإرهاب كانت البند المشترك فى زيارة الرئيس السيسى لكل من
السعودية وروسيا، وأن هذه الحرب أضحت هدفاً مشتركاً للدول الثلاث. فهل يمكن أن
تكون هذه الحرب مدخلاً لتأسيس خرائط جديدة للتحالفات فى الشرق الأوسط على حساب
الخرائط القديمة يكون فى مقدورها العودة بروسيا وجهاً لوجه مرة أخرى مع الولايات
المتحدة فى هذه المنطقة؟
هذا هو السؤال الذى يزعج الأمريكيين والإسرائيليين وحلفاءهم ويزيد من توجساتهم من التقارب المتنامى بين الرئيس السيسى وبوتين ومن التداعيات المحتملة للتطورات الجديدة فى العلاقات بين القاهرة وموسكو.