كثرت
فى الآونة الأخيرة الدعوات التى انطلقت من اتجاهات متعددة لأهمية تجديد الخطاب
الدينى. وإذا كنا قد عرضنا فى
مقالنا الماضى «تشريح التخلف الثقافى»
للمقال
المهم الذى نشره الإعلامى المعروف الأستاذ «إبراهيم عيسى» فى يوميات جريدة الأخبار بتاريخ
«8 أغسطس
2014» والذى قام فيه بالتشريح الدقيق لظاهرة
الجمود الدينى ومقاومة المشايخ التقليديين لتجديد الخطاب الدينى نتيجة
عوامل متشابكة، فإننى أريد اليوم أن أعرض لمقالة أخرى مستنيرة للكاتب الصحفى
المعروف الأستاذ «أحمد الجمال» حلل فيها عقبات تجديد الخطاب الدينى،
مطبقاً فيها بمقدرة فذة المنهج التاريخى لعرض الصراع الذى دار فى مصر
المحروسة الذى بدأ قبل عهد «محمد على» بين مشروعيه الأول هو مشروعين الركود
الفكرى، والثانى هو مشروع التجدد الحضارى (راجع مقال «الجمال» فى الأهرام بتاريخ «9 أغسطس 2014»
بعنوان
تجديد الخطاب الدينى).
ونتيجة لقراءة
«الجمال»
الدقيقة
للتاريخ الفكرى المصرى الحديث أشار إشارة صائبة إلى أن رائد التجديد الحضارى كان
هو الشيخ «حسن العطار» أستاذ «رفاعة رافع الطهطاوى»
الذى
أصبح بعد عودته من البعثة التى أرسلها «محمد على» إلى باريس رائد الفكر العربى الحديث.
والواقع أن «الطهطاوى» هذا الصعيدى العصامى يمثل بتاريخ حياته
الحافل أسطورة فكرية مصرية! فهذا الأزهرى الذكى الذى عينه
«محمد
على» إماما للبعثة التى أرسلها إلى فرنسا
ليكتسب أعضاؤها أصول الصنائع الغربية ومبادئ العلم الحديث فى مجال الفنون
العسكرية والصناعة والتكنولوجيا سرعان ما ظهر أنه كان أنبغ أعضاء البعثة.
وقد
استطاع نتيجة قراءاته الموسوعية فى الفكر الغربى ومشاهداته الثقافية لأساليب الحياة فى المجتمع الفرنسى أن يقدم للقارئ فى عصره فى
كتابه الشهير «تخليص الإبريز فى وصف باريس»
الذى
تضمن مذكراته عن حياته فى باريس النموذج الفكرى الفرنسى، والذى كان يقوم فى الواقع على مبدأ أساسى من مبادئ الحداثة الغربية وهو
أن «العقل هو محك الحكم على الأشياء وليس
النص الدينى». وذلك لأن أوروبا تحت
تأثير تطورات حضارية شتى فصلت بين الدين والدولة بتأثير
العلمانية، وحكمت العقل فى إدارة شئون الدولة والمجتمع، واعتمدت أساساً فى التنمية على العلم والتكنولوجيا. ولكن
«الطهطاوى»
لكونه
كان مدركاً إدراكاً عميقاً أنه يكتب لقراء فى بيئة محافظة ومتخلفة ويهيمن عليها النص الدينى التقليدى، حاول بذكاء نادر أن يقرب
المبادئ المعرفية الغربية إلى أذهان المصريين
الذين سيطرت عليهم مبادئ العقل التقليدى الدينى، وذلك بإيراد نصوص من
القرآن الكريم والسنة النبوية تؤكد المبادئ المعرفية الغربية. وكأنه كان
يريد أن يقول ذ كما قال الشيخ «محمد عبده» من بعد فى كتابه المعروف
«الإسلام
والعلم»- أنه ليس هناك تناقض
حتمى بين المبادئ المعرفية العقلية والنصوص القرآنية.
ويفرق
«الجمال»
تفرقة
واضحة بين مشروعى الركود التاريخى والتجدد الحضارى اللذان مازال الصراع بينهما محتدما حتى اللحظة الراهنة، بالإضافة إلى أن
مشروع التخلف والركود والذى يتمثل فى
«الحفظ والتلقين والتسميع والاكتفاء بما هو متوافر من نتائج السلف
ومعاداة إنجازات العصر بما فى ذلك أدوات البحث
العلمى وتطبيقاته يقف ضد مشروع «التقدم والتجديد» بإعمال العقل وبذل الجهد وإفراغ الوسع
ليس فقط فيما يتصل بالدين والفقه وأصولهما وإنما فى كل ما يتصل بالحياة.
وهنا لابد أن يثار
سؤال من أين استمد الشيخ «حسن العطار» اتجاهاته التجديدية التى كانت تعتبر
ثورية فى عصره؟
يجيب
«الجمال»
على
هذا السؤال بذكر حقائق تاريخية ثابتة، أهمها أن الشيخ «العطار» لم يقنع بدراسة العلوم المعروفة فى عصره
ولكنه درس الهندسة والرياضة وتعمق فى دراسة الفلك ودرس الطب.
والشيخ
«العطار»
الذى
أصبح شيخاً للأزهر هو الذى قاد حملة تجديدية كبرى فى مجال التدريس فى الأزهر
وسانده فى ذلك «الزبيدى» صاحب كتاب «تاج العروس» ويقرر الباحث الأمريكى المعروف ايتر
جرانب فى كتابه الشهير «الجذور الإسلامية للرأسمالية»
أن
الشيخ العطار والزبيدى هما اللذان قاما بالتجديد الفكرى فى الأزهر.
ومن المعروف أن
«بيتر
جران» له نظرية مضادة لنظريات المستشرقين وبعض
الكتاب العرب الذين تأثروا بكتاباتهم، والتى تذهب إلى أن الحملة الفرنسية هى-
بما
حملته معها من أفكار غربية وممارسات سياسية ومعامل علمية -التى بدأت
التجديد فى سياق المجتمع المملوكى المتخلف الذى كان راسفا فى الجمود والنقل عن السلف، وعدم متابعة التطورات الفكرية والعلمية
الكبرى فى العالم.
على العكس من ذلك يرى
«جران»
أنه
نشأت فى مصر فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر رأسمالية تجارية نشيطة، صاحبتها نهضة فكرية تجديدية ويستدل على ذلك بتحليل
مخطوطات متعددة لم يدرسها أحد من قبل.
وعلى ذلك يمكن القول
أن مشروع التجدد الحضارى بدأ مبكراً فى الواقع ويستمد أصوله من مشروع الشيخ
«حسن
العطار»، غير أنه تعثر تعثراً شديداً عبر الزمن
نتيجة ظروف تاريخية وسياسية وفكرية واجتماعية معقدة، بحيث ضاعت معالمه
الأساسية وغرقنا فى ضباب مشروع الركود التاريخى الذى أسهمت فى صنعه نظم الحكم
السلطوية والمشايخ التقليديين الذين أغلقوا باب الاجتهاد، وقنعوا باجترار
المرويات الخرافية والتفسيرات الرجعية للنصوص الدينية مما جعل الدين
مفارقاً لروح العصر. ويصل الأستاذ «الجمال» فى تشخيصه الدقيق إلى لب المشكلة
ومبناها أن آفة التخلف والركود بالحفظ والتلقين والتسميع منتشرة وبائياً فى
مختلف جنبات حياتنا. وهكذا فلا فرق بين عقم التعليم الأزهرى وتدهور التعليم
المدنى فى المدارس والجامعات، فالعملية التعليمية تعادى روح الابتكار
وتحرص على تشكيل «عقول إتباعية» وليست عقولاً نقدية تقوم على البحث
والمساءلة وتطبيق منهج الشك بصورة إبداعية للوصول إلى الحقيقة.
غير أنه ينتقل فى
المناقشة نقلة كيفية حين يقرر فى ملاحظة نافذة أن «الحفظ والتلقين والتسميع سمة غالبة فى
مجال السياسة تنتشر فى الأحزاب والحركات المدنية أيضاً».
وهو بهذا يشير مباشرة
إلى سر تدهور النخب السياسية المصرية الراهنة التى عجزت عن التجدد المعرفى، وهو
يقرر ساخراً «هناك من يحفظ ويستظهر متون الليبرالية
كما جاءت فى كتبها التقليدية»، وهناك من يفعل الشىء نفسه مع المتون
الماركسية والمتون القومية.
ومعنى ذلك أننا فى
الواقع لسنا فى حاجة فقط إلى تجديد الخطاب
الدينى ولكن لابد أن نسعى إلى تجديد الخطاب الفكرى المصرى بوجه عام، حتى
نستطيع أن نقرأ نقدياً تحولات العالم المعاصر فى السياسة والاقتصاد والاجتماع
والثقافة، وأهم من ذلك الفهم العميق لمنطق هذه التغيرات. هذا
هو الطريق الذى لا طريق غيره لبدء النهضة المصرية الجديدة.