الأمر
المهم الذى يجب أن يؤخذ فى الاعتبار أن الاتصال الهاتفى الذى أجراه وزير الخارجية
الأمريكى جون كيرى مع نظيره المصرى سامح شكرى يوم السبت الماضى وأعرب فيه عن
اعتزام الولايات المتحدة الأمريكية الإسراع فى تسليم مصر 10 مروحيات قتالية من
طراز «أباتشى» لمقاتلة الإرهاب لم يأت من فراغ ولكنه إشارة إلى ترتيبات أمريكية
تتعلق بطموح واشنطن تشكيل تحالف دولى بقيادتها لمحاربة خطر تنظيم «الدولة
الإسلامية فى العراق والشام» (داعش) الذى يهدد المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط،
كما أنه يكشف عن حرص أمريكى على تأكيد دور مصرى مركزى فى تأسيس هذا التحالف، وفى
حل تناقضاته المربكة للإدارة الأمريكية.
قبل
أن يجرى جون كيرى هذا الاتصال مع الوزير سامح شكرى كان قد نشر مقالاً فى صحيفة
نيويورك تايمز دعا فيه إلى تأسيس «تحالف عالمى واسع من أجل مكافحة الإبادة التى
يقوم بها «داعش» فى سوريا وشمال العراق». كان التركيز الأمريكى فى السابق يقتصر
على ضرورة محاربة «داعش» فى العراق دون إشارة إلى سوريا التى انتقل منها «داعش»
إلى العراق. لكن أهم ما جاء فى هذا المقال هو تركيز جون كيرى على أن يكون هذا
التحالف الذى يريده «بقيادة أمريكية» وأن الرئيس الأمريكى باراك أوباما يعد خطة
شاملة لدحر «داعش» وأنه سيقترح إستراتيجية بهذا الخصوص خلال قمة لمجلس الأمن
الدولى الذى ستتولى الولايات المتحدة رئاسته فى سبتمبر الحالى.
ما
الذى يربط بين نية واشنطن الآن بالتحديد للإفراج عن صفقة الأباتشى وبين المسعى
الأمريكى لتأسيس تحالف إقليمى دولى
لمحاربة «داعش» والإرهاب؟
المعنى
واضح وهو أن الولايات المتحدة فى حاجة الآن إلى مصر لأداء أدوار تخدم المصالح
الأمريكية، وبالتحديد فى محاربة إرهاب تراه واشنطن تهديداً لهذه المصالح، وترى أن
الإفراج عن صفقة طائرات الأباتشى يمكن أن تكون عربوناً لشراكة أضحت ضرورية مع مصر،
وتأكيداً لحسن نوايا واشنطن نحوها، بعد رفض وتردد أمريكى مصطنع للإفراج عن هذه
الصفقة لأكثر من عام، فى وقت كانت مصر تؤكد للإدارة الأمريكية أنها فى أشد الحاجة
إلى هذه الطائرات لمحاربة الإرهاب فى سيناء الذى أخذ يتغلغل فى عمق الوادى المصرى.
وعلى
الرغم من قبول الإدارة الأمريكية بالإفراج عن 650 مليون دولار من المعونة العسكرية
الأمريكية لمصر ( 3,1 مليار دولار) وإعطاء مصر خمس طائرات أباتشى جديدة إضافة إلى
الطائرات الأباتشى المصرية التى كانت قد أعادتها مصر للولايات المتحدة من أجل
الإصلاح، وذلك عقب زيارة ناجحة قام بها نبيل فهمى وزير خارجية مصر السابق للولايات
المتحدة فى آخر ابريل الماضى فإن شيئاً لم يحدث طيلة الأشهر الماضية، لم تعد الأباتشى
المصرية، ولم تصل أى من الطائرات الخمس الأخرى ولم يفرج عن شىء من تلك المعونة
والآن بالتحديد يجرى تجديد الحديث عن صفقة الأباتشى ضمن دبلوماسية أمريكية جديدة
نحو مصر تأتى فى ظل متغيرات جديدة ومهمة لم يعد فى مقدور واشنطن تجاهلها.
أول
هذه المتغيرات أن النظام الجديد فى مصر ينجح يوماً بعد يوم فى تثبيت ركائز قوية
لشرعيته، ويؤكد صدق رهاناته وخياراته داخل مصر على مستوى إدارة الأزمة الأمنية
والأزمة الاقتصادية، وأنه يقود مصر بمشاريعه الاقتصادية العملاقة نحو آفاق واعدة
للمصريين. وثانى هذه المتغيرات هو نجاح هذا النظام فى تأسيس شراكة عربية مع
السعودية والإمارات نجحت فى إحداث توازن فى النظام العربى بعد تداعيات موجة
(الثورات العربية)، وثالثها نجاح مصر فى ادارة الأزمة الأخيرة فى قطاع غزة وتمكنها
من تثبيت تهدئة طويلة المدى نسبياً سيكون فى مقدورها الحفاظ على تثبيت الأمن ووقف
القتال طموحاً إلى تجديد الأمل فى حل سلمى ينهى الصراع فى فلسطين، لكن المتغير
الأهم بالنسبة للولايات المتحدة هو نجاح مصر فى كسر حاجز السيطرة الأمريكية على
دورها الإقليمى والدولى وإحداث تواصل مهم مع القيادة الروسية حول أجندة عمل مكثفة
من أبرز بنودها التعاون العسكرى فى مجال التسليح على وجه الخصوص والحرب على
الإرهاب. حدث ذلك خلال الزيارة الناجحة التى قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسى
لروسيا التى أعقبت زيارة شديدة الأهمية للمملكة العربية السعودية ولقاء ثنائى جمعه
مع العاهل السعودى الملك عبد الله بن عبد العزيز كان من أبرز موضوعاته التنسيق
والتفاهم فى الحرب على الإرهاب.
هذه
المتغيرات ذات العلاقة بمصر تزامنت مع تفاقم مخاطر «الدولة الإسلامية فى العراق
والشام» (داعش) التى أجبرت الإدارة الأمريكية على إجراء تفاهمات مع إيران لتنسيق
الحرب على «داعش» فى العراق، ثم الاضطرار الأمريكى إلى تقديم معلومات عسكرية خطيرة
ومهمة للنظام السورى عبر الوساطة العراقية والروسية جمعتها طائرات أمريكية لمواقع
وتجمعات «داعش» فى سوريا، نجح الجيش السورى فى استخدامها بشن ضربات قاتلة على تلك
المواقع.
النظام
السورى التقط هذا التطور وسعى إلى توظيفه لمصلحته واتخاذه ركيزة لفتح حوار وتفاهم
سورى ـ أمريكى مستقبلى لا يقتصر على تعاون فى الحرب على الإرهاب بل ويمتد إلى
ترتيب الأوضاع فى سوريا لمصلحته النظام شرط أن يكون هذا كله ضمن شراكة روسية
أساسية، وضمن تفعيل قرار مجلس الأمن الدولى رقم 2170 الداعى إلى إنشاء تحالف دولى
ضد الإرهاب وضد كل من «داعش» «وجبهة النصرة» (تنظيم القاعدة فى سوريا)، كما
التقطته روسيا حيث دعا وزير خارجيتها سيرجى لافروف الحكومات الغربية للعمل مع
السلطات السورية للتصدى لمسلحى «داعش». وقال إن «الأمريكيين والأوربيين بدأوا الآن
يعترفون بالحقيقة التى كانوا يقرون بها فى أحاديثهم الخاصة، وهى ان الخطر الأساسى
على المنطقة، وعلى مصالح الغرب، لا يتمثل فى نظام الرئيس بشار الأسد، وإنما فى
احتمال استيلاء الإرهابيين على السلطة فى سوريا ودول أخرى فى المنطقة».
ما
قاله وزير خارجية روسيا ردده مالكوم ريفكند وزير الدفاع البريطانى الأسبق عندما
دعا رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون إلى التحالف مع بشار الأسد كما «تحالفت
بريطانيا فى الماضى مع ستالين (زعيم الاتحاد السوفيتى) لإلحاق الهزيمة بالنازى فى
الحرب العالمية الثانية».
هكذا
تتداعى الأحداث والتحديات أمام الإدارة الأمريكية: الحرب على الارهاب تفرض
أولويتها على عكس أولويات الأجندة الأمريكية، والدور الروسى أضحى أساسياً فى تشكيل
أى تحالف إقليمى دولى للتخلص من مخاطر
«داعش» على المصالح الأمريكية وهو دور لا تريده واشنطن، والتعاون مع نظام الأسد
أضحى هو الآخر ضرورة لنجاح هذه الحرب لأنه مستحيل دحر «داعش» فى العراق دون اجتثاث
وجودها فى سوريا، ومستحيل تحقيق ذلك دون تعاون مع نظام بشار الأسد.
من
هنا بالتحديد يأتى التواصل الأمريكى مع مصر عبر «دبلوماسية الاباتشى» لإيجاد مخرج
لكل هذه المعضلات التى تواجه الإدارة الأمريكية وبالذات معضلة تأسيس تحالف دولى
«مأمون» دون منافسة روسية على الأخص، عبر دور ترى واشنطن أن القاهرة الأجدر فى
إيجاد حلول لكل تلك المعضلات. فكيف للقاهرة أن تقوم بذلك؟ هذا هو التحدى..