يعتبر البرلمان هو الضلع الثالث والمتين فى مثلث إعادة هندسة النظام السياسى فى مصر انطلاقاً من أهداف ودوافع الثورة المصرية (25 يناير - 30 يونيو)،
وبدون استكماله وبالجودة ذاتها التى جرى بها تأسيس الضلعين الآخرين: الدستور الجديد وانتخاب رئيس الجمهورية سيبقى البناء كله مهدداً لسبب أساسى هو أن البرلمان، وفقاً لمواد الدستور ونصوصه، يعتبر صمام الأمان فى النظام السياسى الجديد، وبالتحديد هو ضابط الإيقاع فى أداء السلطة التنفيذية احتكاماً لمواد الدستور. فالبرلمان هو من تقع على عاتقه مسئولية تفعيل الدستور وتحويله إلى قوانين وتشريعات تلتزم بها السلطة التنفيذية، وهو المسئول عن مراقبة أداء السلطة التنفيذية ومحاسبتها على قاعدة الالتزام أو عدم الالتزام بما يجرى تشريعه من قوانين. والسلطة التنفيذية هنا ليست فقط الحكومة بل وأيضاً رئيس الجمهورية وكل مؤسسات الدولة.
لذلك يصعب تصور أن تقوم السلطة التنفيذية (الرئيس والحكومة) بالتشريع للقوانين التى ستؤسس لعملية بناء البرلمان الجديد، فالتشريع، فى عمومه، هو مسئولية السلطة التشريعية (البرلمان) وليس السلطة التنفيذية، فما بالنا أن يأتى التشريع من السلطة التنفيذية لمواد مؤسسة لبناء السلطة التشريعية، وما يعنيه ذلك من تخطيط وتحكم مستقبلى من السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية التى ستتولى مراقبتها ومحاسبتها.
لذلك نجد أن الكثيرين يتشككون وأحياناً يرتابون ويحذرون من كل ما يصدر عن السلطة التنفيذية من تشريعات تتعلق بعملية بناء البرلمان الجديد (خاصة قانون مباشرة الحقوق السياسية وقانون انتخاب البرلمان)، اعتقاداً منهم أن السلطة التنفيذية، التى تتولى الآن ومؤقتاً مهمة التشريع استثنائياً لعدم وجود برلمان، سوف تتعمد أن يأتى البرلمان الجديد ضعيفاً وهزيلاً كى تكون فى مأمن كامل من أى مراقبة أو محاسبة على أعمالها وأدائها.
هذه الشكوك والظنون فى حاجة إلى ما يبددها فعلاً وليس قولاً، فحسن النيات هنا لا يكفى والمصارحة والشفافية هما الضمان الذى يكفل أن تكون عملية بناء البرلمان الجديد، وفى جميع مراحلها، ضمن سياق الهدف الأهم وهو استكمال الضلع الثالث فى نظام سياسى جديد نأمل أن يكون نظام الثورة الذى سيحقق الأهداف التى قامت من أجلها.
الإجادة فى إنجاز هذه العملية هى الركيزة الثانية فى استكمال هذا الاستحقاق بموازاة الشروع فى إنجاز الركيزة الأولى التى تحدثنا عنها فى الأسبوع الماضى وهى بناء جبهة حماية الثورة من كل الأحزاب والقوى الثورية لمواجهة الهجوم الغادر للقوى المعادية للثورة (نظام مبارك ونظام الإخوان)، وتأسيس تحالف ثورى يعبر عن المستضعفين والفقراء فى مواجهة تحالفات الأثرياء والأغنياء ومن تولوا على مدى سنوات مهمة نهب الشعب وقهر إرادته مدعومين بنظام الاستبداد والفساد، تحالف ثورى يخوض انتخابات البرلمان القادم مستنداً على مرجعية واضحة ومحددة هى مرجعية الثورة وأهدافها. لكن هذه الركيزة تستلزم إنجاز الركيزة الثانية وهى بناء البرلمان نفسه وبالتحديد القوانين والتشريعات والعمليات والإجراءات التى ستنجز هذا البناء لتضمن أن يأتى ثورياً، أى أن يكون بالفعل برلماناً للثورة، وضلعاً ثالثاً متمماً فى بناء النظام السياسى للثورة.
هذه العملية تواجه تهديدين رئيسيين يجب على الجميع: الرئيس والحكومة والمحكمة الدستورية واللجنة العليا للانتخابات والأحزاب والقوى الثورية أن تتحرك وبأسرع ما يمكن لمعالجتها.
التهديد الأول: انعدام الفعالية، يأتى هذا التهديد من مضمون مواد القانون الجديد لانتخاب البرلمان (مجلس النواب) والقانون الجديد لمباشرة الحقوق السياسية وبالذات المواد التى تنص على نظام القائمة المغلقة، والدوائر الانتخابية الأربع الواسعة، ونسبة الـ 78% فردى والـ22% قوائم، وإجازة مزاحمة الأحزاب للمستقلين فى الانتخابات الفردية، وفرض نظام المحاصصة على القوائم فبسبب هذه المواد يمكن القول إن البرلمان القادم سيكون برلماناً إقصائياً وغير ديمقراطى ومن ثم سيكون نظاماً معدوم الفعالية السياسية.
فالمعروف أن النظام الفردى نظام إقصائى بطبعه فمن يحصل من المرشحين على الأغلبية المطلقة فى جولة الانتخابات الأولى أو على النسبة الأعلى فى الجولة الثانية (جولة الإعادة) أياً كانت هذه النسبة فسوف يحوز على مقعد الدائرة، ما يعنى أن هذا النائب المنتخب سيكون معبراً، فى أحسن الأحوال عن (50% + صوت واحد) من أصوات الناخبين فى الدائرة، أما باقى الناخبين (ويمكن أن تصل نسبتهم إلى 49%) لن يكون لهم من يتحدث باسمهم فى البرلمان.
هذا الإقصاء سوف يشمل 78% من الدوائر الانتخابية الفردية فى مصر، يجيء نظام القائمة المغلقة ليعطى كل المقاعد المخصصة للقوائم فى كل دائرة إلى القائمة التى ستحصل على أعلى الأصوات دون غيرها حتى ولو كان ما حصلت عليه لا يزيد على ربع الناخبين فى الدائرة، ما يعنى أن ثلاثة أرباع الناخبين لن يكون لهم من يمثلهم داخل مجلس النواب.
التهديد الثاني: افتقاد الدستورية وخطر الحل، فالمجلس المنتظر يواجه خطر عدم الدستورية وبالتالى سيكون مهدداً بالحل بعد اكتمال انتخابه، الأمر الذى يؤدى أولاً إلى هدر ملايين الجنيهات التى ستنفق على إجراء الانتخابات وعلى الحملات الانتخابية، ويؤدى ثانياً، وهذا هو الأخطر، إلى حرمان الثورة من البرلمان وعودة مهمة التشريع مرة ثانية إلى السلطة التنفيذية لعامين قادمين على الأقل، أى تعطيل استكمال عملية بناء النظام الثورى لعامين على الأقل.
فكما تعرض البرلمان السابق لخطر عدم الدستورية وجرى حله بقرار من المحكمة الدستورية يواجه البرلمان الجديد وحتى قبل انتخابه خطر عدم الدستورية والحل للأسباب ذاتها وبالذات خلل التوازن بين نسبة الفردى والقائمة (انعدام العدالة) وخطأ إعطاء الأحزاب حق المشاركة بمرشحين فى الانتخابات الفردية بما يعنيه ذلك من جور وعدم عدالة بحق المستقلين (السبب الذى جرى حل البرلمان السابق)، وأخيراً عدم أحقية النواب المستقلين فى تغيير الصفة بالانتماء إلى أحد الأحزاب مما يهددهم بفقد عضوية المجلس. كل هذه ثغرات مؤكدة تجعل البرلمان، عند انتخابه، مهدداً بالطعن فى دستوريته، ومعرضاً للحل.
وكما أن السعى لتشكيل جبهة لحماية الثورة وتأسيس تحالف انتخابى ثورى على قاعدة الولاء للثورة وأهدافها يعتبر ضمانة لوصول القوى الثورية إلى البرلمان لتقوم بالوظائف والأدوار المأمولة، فإن تأمين وتحصين البرلمان من الحل هو الضمانة الأخرى الضرورية وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات فى مقدمتها تعديل قانون انتخابات مجلس النواب وقانون مباشرة الحقوق السياسية بما يقضى على كل الثغرات التى تعطى فرصاً للبعض كى يطعنوا فى دستورية البرلمان ومن بينها أيضاً أن يبادر رئيس الجمهورية بطرح مبادرة على قضاة المحكمة الدستورية وبحضور ممثلى القوى السياسية مؤداها أن «قانون انتخاب البرلمان وقانون مباشرة الحقوق السياسية» وبالشكل الذى هما عليه قانونان دستوريان وأن الطعن على أى منهما يعتبر من قبيل العمل المعدوم دستورياً، ومن ثم يصبح البرلمان الذى سينتخبه المصريون برلماناً دستورياً ولا يشوبه أى شكل من أشكال عدم الدستورية.