استطاعت نيويورك، بأضوائها وضجيجها، أن تجذب أنظار العالم طيلة الأيام العشرة الماضية عندما توافد إليها قادة دول العالم للمشاركة فى أعمال «قمة عالمية» للبحث فى مسئوليات الدول فى إنقاذ أوضاع المناخ العالمى المتردية، وللمشاركة أيضاً فى أعمال الدورة العادية التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة.
انشغل الإعلام العالمى ومعه بالطبع الإعلام العربى وفى مقدمته الإعلام المصرى بتفاصيل هاتين القمتين، لكن أحداً لم يتابع ولم يكترث بأعمال مؤتمر عالمى آخر كان يُعقد فى العاصمة النمساوية الهادئة الخالية من كل ضجيج وتلوث باستثناء «التلوث السياسي» أو بصراحة أكثر «الإفك السياسي» و»غطرسة القوة» التى تمارسها دول كبرى تتزعم الدعوة إلى الحريات وحقوق الإنسان والمساواة بين الأمم والشعوب، كما تتزعم الدعوة إلى السلام العالمى فى حين أنها تمارس فعلياً كل ما هو على النقيض من كل تلك الدعوات.
فالعاصمة النمساوية هى المقر الدائم لواحدة من أهم الوكالات أو المنظمات الدولية المتخصصة وهى «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، التى وظيفتها ودوراها يتركزان فى نزع، أو على الأقل ضبط ومنع انتشار الأسلحة النووية فى العالم من خلال العمل على تشجيع وتحفيز الدول على التوقيع والالتزام بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة الذرية، باعتبار أن محاصرة ومنع انتشار تلك الأسلحة الفتاكة تعد عملاً تأسيسياً للسلام والأمن فى العالم. لكن، وبكل أسف، تصادف أن تعقد الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤتمرها بمقرها فى فيينا مع انعقاد القمة العالمية للمناخ وانعقاد الاجتماع الدورى التاسع والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة حيث تبارى قادة العالم فى الدعوة إلى السلام وكل قيم العدالة وحقوق الإنسان والطموح إلى غدٍ مشرق لكل شعوب العالم.
ما جرى وما صدر عن اجتماع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يعد لطمة قاسية لكل من خدعوا بالخطابات المعسولة المفعمة بالكذب والخداع عن السلام وحقوق الإنسان خاصة من قادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فقد تصدى رؤساء وفود هذه الدول لمشروع قرار عربى يعد فى صلب وعمق التأسيس للسلام فى إقليم الشرق الأوسط من خلال تفعيل القرار الصادر عن المؤتمر الدورى لمراجعة معاهدة حظر انتشار الأسلحة الذرية لعام 1995 الذى ينص على جعل إقليم الشرق الأوسط إقليماً خالياً من أسلحة الدمار الشامل وبالذات الأسلحة الذرية. فقد طالب مشروع القرار العربى «إسرائيل»، وهى الدولة الوحيدة فى الشرق الأوسط التى تمتلك أسلحة ذرية، بأن توقع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة الذرية مثل كل دول الإقليم وأن تعلن التزامها بالمعايير التى تضعها الوكالة الدولية للطاقة الذرية وفى مقدمتها وضع كل منشآتها النووية تحت الضمانات الشاملة للوكالة، وفتح هذه المنشآت، دون قيود، أمام مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن إسرائيل لم ترد بنفسها، ولكن الرد جاء أمريكياً وأوروبياً، حيث قادت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى حملة ضارية على المشروع العربى مستخدمة كل أنواع الغواية والتهديد وجاء التصويت بـ 58 دولة رفضت المشروع مقابل 45 دولة أيدته، وامتنعت 59 دولة من إجمالى الدول الأعضاء البالغ عددهم 162 دولة عن التصويت، ما يعنى أن 117 دولة لم تؤيد الطلب العربى بجعل إقليم الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، لأن هذا هو المعنى الحقيقى والمباشر لرفض هذه الدول إرغام إسرائيل على التوقيع على معاهدة انتشار الأسلحة الذرية، ما يؤكد أن هذه الدول ليست مع إرساء سلام عادل فى المنطقة.
المعنى الأهم لهذا الموقف أن الدول العربية تخسر كثيراً من وزنها ومكانتها العالمية فى الوقت الذى تتوهم فيه أنها تحقق انتصارات. الخسارة أسبابها كثيرة وهى أن الدول العربية ومعها العالم، أو الجزء الأهم من العالم، يخوض الآن الحرب الأهم ضد الإرهاب وعلى الأخص ضد تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» (داعش) بعد أن أظهرت الولايات المتحدة عداءها لهذا التنظيم، وكرد فعل على تجاوزه للخطوط الحمراء الأمريكية فى العراق وفى مقدمتها المصالح النفطية الأمريكية فى العراق، وأمن منطقة كردستان العراق التى تعد مرتكز المشروع الأمريكى لفرض «خيار التقسيم» على العراق.
الأمريكيون يخوضون الحرب ضد «داعش» وكذلك دول عربية، الجميع مشغولون الآن بالحرب على الإرهاب، ولم يعد أحد يتحدث عن «إسرائيل» كمصدر أولى وأساسى لتهديد الأمن القومى العربى والأمن الوطنى لكل الدول العربية، فالخطر النووى الإسرائيلى يتجاوز الحدود الضيقة لما يسمى الآن، وبكل أسف، النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، فهذا السلاح هو أداة فرض «إسرائيل» على العرب وهو أداة فرض السلام الإسرائيلى وليس السلام العادل. فمن خلال التفرد الإسرائيلى بامتلاك السلاح النووى ومن خلال التفوق الإسرائيلى النوعى العسكرى المطلق على كل العرب من خلال تعهدات وأدوار أمريكية بات فى مقدور إسرائيل أن تتمرد وأن تفرض شروطها وأن تتحدى كل العرب والعالم بأنها لن تسمح لأحد أن يتحدث عن ترسانتها من أسلحة نووية فى الوقت الذى كان قد استقر فيه العالم، والعرب معهم، على أن نزع الأسلحة النووية وكل أسلحة الدمار الشامل يعتبر أهم مرتكزات تحقيق السلام الحقيقي.
كيف سيرد العرب على هذا الموقف الأمريكي- الأوروبى العدائى ضد الأمن والسلام فى الشرق الأوسط والمعادى للمصالح العربية ومتطلبات الأمن والاستقرار فى المنطقة كلها؟ وما هى الخيارات العربية إذا فاجأت إسرائيل العرب والعالم، وألقت بـ «القفاز» فى وجه الجميع وأعلنت نفسها «دولة أمر واقع نووية» مثلها مثل الهند وباكستان وكوريا الشمالية؟
هل سيكون الرد هو لا تعليق؟ أو هل سيخرج علينا فريق ممن يسمون أنفسهم «خبراء استراتيجيون» ويصدموننا بفتاوى من نوع أن «السلاح النووى سلاح غير قابل للاستخدام» أو «أننا نملك بدائل أخرى للردع قادرة على أن ترد على إسرائيل»، أم أننا سنكون واعين وملتزمين بنوع آخر من الفكر الاستراتيجى يربط بين القوة والمكانة، ويربط بين السلام والقوة، ويرى أن السلاح النووى ليس مجرد سلاح، بل قوة هائلة لفرض النفوذ واكتساب المكانة وكسر إرادة الآخرين، ومن ثم نبدأ فى مراجعة موقفنا التقليدى الذى افتقد كل جدارته، المتمترس وراء مقولة إن «خيارنا الاستراتيجى هو جعل إقليم الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية» فى الوقت الذى أصبحت فعلاً منطقة مفعمة بالأسلحة النووية سواء كانت الترسانة النووية الإسرائيلية أو الأسلحة النووية فى الغواصات النووية وغيرها من القطع البحرية التابعة لقوى كبرى فى المياه المحيطة بوطننا العربي.
أسئلة مهمة يجب أن تشغلنا لأنها تكشف إلى أى مدى وصلت فجوة المصداقية بين خطابات قادة الغرب فى مؤتمر الأمم المتحدة بنيويورك المفعمة بالمبادئ وبين تآمرهم على السلام ومرتكزاته فى اجتماعات فيينا، كما تكشف عن مدى فجوة المصداقية بين ما يقوله ويروجه الغرب خاصة الأمريكيين من احترام لحقوق الشعوب والتزام بالسلام وبين ضربهم عرض الحائط بتلك المبادئ والتزامهم فقط بحماية مصالحهم فى المنطقة وعلى رأسها أمن ووجود إسرائيل.