رهانـــات إســــرائيل.. من يدفــــع الأثمــــان؟!
لم يكترث الإسرائيليون كثيراًً لغيابهم «الرسمي» عن المشاركة فى مؤتمر إعادة إعمار قطاع غزة من جراء العدوان الإسرائيلى الأخير.
أعلنوا أن هناك «تفاهمات» قبلوا بها لعدم الإصرار على المشاركة فى هذا المؤتمر الذى تولت مصر الإعداد له والإشراف عليه بالمشاركة مع النرويج، وكان رهانهم إزاء هذا المؤتمر، وكما أعلن وزير خارجيتهم افيجدور ليبرمان، أنه «لا إعمار دون مشاركة إسرائيل» لسبب أساسى هو أن إسرائيل هى من يتحكم فى معابر الدخول إلى غزة، ولن تدخل إلى القطاع أى مواد بناء خاصة بإعادة الإعمار إلا بالموافقة الإسرائيلية.
لم يكن هذا هو رهانهم الوحيد، بل أنهم راهنوا على أن حلفاءهم المشاركين فى هذا المؤتمر سوف يربطون بين تقديم دعم إعادة الإعمار وبين شروط يرونها ضرورية ولابد منها، وبالذات أن تكون إعادة الإعمار ضمن عملية السلام، أى الربط بين إعادة الإعمار وبين القبول الفلسطينى بالموافقة مجدداً على الجلوس على مائدة تفاوض مع الإسرائيليين يعلمون مسبقاً أنها غير ذات جدوي.
كان رهانهم أنه ليس هناك ما يمنع من تكرار ما سبق أن حدث عقب مؤتمر المانحين الذى عقد فى باريس عام 2009 فى شرم الشيخ لإعادة إعمار ما خلفه العدوان الإسرائيلى على غزة فى ذلك الوقت الذى كان قد حمل اسم «الرصاص المسكوب». حينها تعهد المشاركون فى ذلك المؤتمر بتقديم 4.481 دولار، لكن هذه الوعود ظلت حبراً على ورق، حيث أصرت الجهات المانحة على تجنب التعامل مع حركة «حماس» التى كانت تسيطر وقتها على القطاع، أما الولايات المتحدة فقد كان موقفها أكثر صراحة ووضوحاً عندما ربطت تعاونها مع حكومة «حماس» وبين احترام «حماس» لـ «التزامات منظمة التحرير الفلسطينية بالتخلى عن العنف والاعتراف بحق إسرائيل فى الوجود»، الإسرائيليون وجدوا هذه المرة أيضاً أنه ليس هناك ما يمنع من المراهنة على أن يربط المشاركون فى مؤتمر إعادة إعمار غزة الذين استطاعوا تقديم تعهدات بمساعدات بلغت 5.4 مليار دولار وبين شروط سياسية تريدها إسرائيل على نحو ما فعل رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون مع قرار مجلس العموم البريطانى الصادر يوم 13 أكتوبرالحالى وبأغلبية ساحقة (274 صوتاً ضد 12 صوتاً من أصل 300 نائب حضروا الجلسة) يوصى الحكومة بالاعتراف بدولة فلسطين. فقد سارع كاميرون باحتواء هذا القرار وتفريغه من مضمونه تماماً عندما ربط بين تنفيذ القرار وبين نجاح عملية السلام، وقوله: «جميعنا يرغب برؤية إسرائيل تعيش فى سلام إلى جانب دولة فلسطين.. فى ذلك الوقت علينا أن نعترف بدولة فلسطين» (!!)
هكذا كانت رهانات «إسرائيل» على مقررات وتوصيات مؤتمر إعادة إعمار غزة.. أنهم وحدهم من سيقررون ما يمكن تنفيذه من هذه التوصيات وليس غيرهم، وأن هذه التوصيات لن ترى النور أبداً، وستظل أرقام التبرعات أرقاماً وهمية لأن حلفاء إسرائيل داخل المؤتمر سيضعون العقبات التى تجعل تنفيذها مرهوناً بالإرادة الإسرائيلية دون غيرها، وبمتطلبات الأمن الإسرائيلى دون غيرها. لكن الرهان الأهم من كل هذه الرهانات هو ثقة «الإسرائيليين» فى أنه «لن تقوم أبداً دولة فلسطينية»، وهذا ما تعهد به وزير الحرب الإسرائيلى موشيه يعالون بعد انفضاض أعمال مؤتمر إعادة إعمار غزة.
فقد أعلن يعالون أنه «لن تقام دولة فلسطينية فى الضفة الغربية، وإنما حكم ذاتى منزوع السلاح»، ونقل عنه راديو إسرائيل قوله: «ستكون لإسرائيل سيطرة أمنية كاملة جوياً وبرياً» موضحاً أنه «لا يسعى إلى إيجاد حل مع الفلسطينيين، وإنما إلى إدارة صراع».
ليست هناك صراحة وليس هناك أى وضوح أكثر من ذلك، لكن مازال الكثيرون يعيشون «وهم السلام» و«وهم حل الدولتين» و«وهم تجديد التفاوض» رغم كل ما يعلن وكل ما يقال، دون تزييف أو إنكار، على لسان قادة الكيان الصهيونى أنهم لن ينسحبوا من الأرض التى احتلوها، وأنهم لا يعترفون بأن الضفة الغربية وأن القدس أرض محتلة، بل هى أرض إسرائيل، وأنها ملك لشعب إسرائيل، وأن الفلسطينيين هم الغرباء، وأنهم عليهم أن يبحثوا عن «وطن بديل» وأن يرضوا بما تقدمه لهم إسرائيل. كما أنهم يؤكدون كل يوم أن سلام العرب لا يعنيهم، وأن مبادرة السلام العربية (لعام 2001) قد ماتت، وأن السلام الذى يعنيهم هو السلام الذى يحقق أمن ومصالح إسرائيل ويحمى وجودها.
رهانات إسرائيل على هذا كله مبعثها أمران، أو بالأحرى ثقتان، الأولى وجود ظهير دولى صاحب مصلحة فى أن يحفظ أمن ووجود إسرائيل وأن يؤمِّن لها التفوق المطلق والحماية المطلقة من منطلق إدراك هذا الظهير الدولى الغربي، والأمريكى بوجه خاص، أن هذا كله نابع من مصلحة غربية ومصلحة أمريكية مطلقة، والثانية الثقة فى أن العرب غير عازمين على خوض صراع مع إسرائيل الآن، وأن إسرائيل لم تعد مصدراً لتهديد أى منهم، وأن تهديد العرب يأتى إما من دولة عربية ضد دولة عربية أخرى على نحو ما حدث من عدوان واحتلال عراقى للكويت عام 1990. وأما من داخل الدول العربية أى الصراعات الداخلية العربية العربية، صراعات عرقية وأخرى مذهبية وطائفية، على نحو ما يحدث الآن فى سوريا والعراق واليمن وليبيا وما سوف يحدث فى الأجل القصير أو القريب فى دول عربية أخري، أو أن تأتى من طرف إقليمى غير إسرائيل وبالتحديد إيران التى يروج الإسرائيليون بتركيز شديد، وبدعم أمريكى لمقولة أن «إيران هى العدو المشترك لدول عربية معتدلة ولإسرائيل». وأن هذا العدو المشترك، يجب أن يوحد بين إسرائيل وهذه الدول العربية لمواجهة هذا العدو، وأن هذا يفترض، ضمن ما يفترض، أن يتوقف العرب عن جعل «قضية فلسطين» عقبة أمام مشروع التعاون الإقليمى العربي- الإسرائيلي.
فعندما تورطت دول عربية بتحميل إيران وحزب الله (اللبناني) مسئولية الحرب الإسرائيلية- اللبنانية فى يونيو 2006، بادرت تسيبى ليفنى عندما كانت وزيرة للخارجية الإسرائيلية حينذاك، بالدعوة إلى تأسيس «تحالف عربي- إسرائيلي» لمواجهة العدو الإيراني، وإلى ضرورة مشاركة إسرائيل فى «الحلف السُني» الذى يجب أن يشكل لمواجهة «الهلال الشيعي». كان ذلك تجاوباً مع دعوة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس لتأسيس «شرق أوسط جديد» يولد من رحم الحرب الإسرائيلية اللبنانية عام 2006 يتم فيه استبدال الصراع العربي- الإسرائيلى بصراع آخر أهم هو الصراع العربي- الإيراني، ويتم استبدال إسرائيل كعدو للعرب بإيران كعدو جديد، وأن هذا لن يحدث إلا «بتعميم الصراع السُنى الشيعي» فى كل أنحاء العالم العربي.
الآن ظهر عدو آخر جديد هو ما يسمونه «الإرهاب الإسلامي» و»الدولة الإسلامية» (داعش) ويطالبون بتعاون عربى إسرائيلى لمواجهة الخطر الإيرانى ومواجهة خطر الإرهاب الإسلامي، وهم سعداء بهذا الخطر الذى يدعم مسعاهم لصرف الأنظار عن جريمتهم التاريخية ضد الشعب الفلسطينى وضد كل الأمة العربية.
رهاناتهم لن تتوقف، لكن الأخطر من هذه الرهانات أنهم على ثقة فى أن العرب، وحدهم، من سيدفعون أثمان هذه الرهانات.