عقدت جريدة «الاتحاد» الإماراتية منتداها السنوى من 21-22 أكتوبر 2014 بعنوان «الإرهاب من جديد». وقد دعيت لهذا المنتدى العريق الذى ينعقد سنوياً ويضم عادة نخبة من أبرز كتاب الاتحاد بالإضافة إلى أعضاء بارزين من النخبة الفكرية الإماراتية.
وقد طلب المنتدى منى أن أعقب على بحثين لأستاذين مرموقين فى علم السياسة. أولهما الدكتور «أحمد يوسف أحمد» الأستاذ بجامعة القاهرة والذى قدم بحثاً بعنوان «تأثير الإرهاب على جامعة الدول العربية والتكتلات العربية والإقليمية»، وثانيهما هو الدكتور «عبد الله خليفة الشايجى» الأستاذ بجامعة الكويت والذى قدم بحثاً بعنوان «النظام العربى وكلفة مواجهة الإرهاب».
وقد حرصت فى تعقيبى على كلا البحثين أن أطبق منهجية التحليل الثقافى، لأننى رأيت أنها أكثر فعالية فى تحليل ظواهر الإرهاب المتعددة، وأبرزها حالياً تنظيم داعش الإرهابى.
وقد انطلقت من فرضية مفادها أنه لو طبقنا المنهج الأركيولوجى وحفرنا فى عمق التربة الثقافية العربية لاكتشفنا ان الجذر الأصلى للتكفير والإرهاب يتمثل فى رفض الجماعات الإسلامية المتعددة سواء كانت معتدلة أو متشددة للحداثة فى صورتها الغربية.
وقد التفت منذ زمن وخصوصا فى كتابى «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة» الصادر فى القاهرة عن المكتبة الأكاديمية عام 1996 إلى أهمية تحليل خطاب التكفير فى مواجهة الحداثة.
وقررت أنه من علامات التخلف الفكرى والتدهور الحضارى التى لا يمكن أن يكون حولها خلاف صعود خطاب التكفير وانتشاره فى أدبيات وكتابات من ينعتون أنفسهم بالكتاب الإسلاميين فى صراعهم الدائم مع خصومهم الفكريين العلمانيين. ويعتمد هذا الخطاب فى بنيته وآلياته على عدد من المسلمات الخاطئة، والتى لابد لها أن تسلم إلى نتائج باطلة.
ولعل أولى هذه المسلمات أن هناك جماعات من الناس أطلقوا على أنفسهم اسم «الإسلاميين» الذين يزعمون أن الله سبحانه وتعالى قد اختصهم- دون غيرهم من سائر البشر- لكى يكونوا هم المفسرين للنصوص الدينية، والقائمين على حماية الدين من المعتدين عليه. وأخطر من هذا كله، تجاسرهم على نعت من يخالفهم الرأى بالكفار الخارجين عن الدين.
وهذه الجماعات- بالرغم من تعدد مشاربها وتباين توجهاتها- لها هدف واحد لا تريد أن تحيد عنه، وهو تقويض الدولة الراهنة، بزعم أنها علمانية، وإقامة سلطة دينية تحل محلها، تقوم دعائمها على النص الدينى، تحت شعار الحاكمية لله وليس للبشر. وتنصب الحملة ــ بصورة مباشرة أو غير مباشرة ــ على الحداثة بمفهومها الغربى، والذى انتقل إلى الوطن العربى مع بدايات النهضة العربية الأولى.
ونظراً لغموض مفهوم الحداثة ــ على المستوى النظرى ــ فقد وجد هؤلاء أن الفرصة مواتية أمامهم لإطلاق الأحكام ضد الغرب المادى الملحد، وفى مواجهة الحداثة الغربية التى ترجمت فى وعيهم ببعد واحد منها هو العلمانية.
ولعل السؤال الرئيسى الذى ينبغى إثارته: ما هى هذه الحداثة الغربية الملعونة التى اقتبسناها من هذا الغرب المادى الملحد؟ إن مكوناتها الرئيسية ــ على الصعيد العملى ــ هو صياغة قانون حديث يحكم المعاملات بين الأفراد، ويحدد العلاقات بين المواطنين والدولة، حيث يلعب فى هذا المجال مبدأ سيادة القانون دوراً أساسياً. ولكن قبل القانون والتشريع اقتبسنا فكرة الدستور الذى ينص على مصدر السلطات، ويحدد السلطات الأساسية، السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية فى ظل مبدأ الفصل بين السلطات. واقتبسنا أيضاً فكرة الأحزاب السياسية، باعتبارها ــ فى تعدديتهاــ تعبر عن المصالح الطبقية المختلفة، وعن رؤى العالم المتباينة. واقتبسنا فكرة إصدار صحف منتظمة، كوسيلة من وسائل رقابة الرأى العام على ممارسة سلطات الدولة المختلفة وظائفها. واقتبسنا فكرة التعليم العام، والتى على أساسها أنشئت المدارس الحديثة فى مصر. واقتبسنا فكرة الجامعة كمؤسسة أكاديمية مستقلة، وبناء على ذلك أنشئت عشرات الجامعات العربية، والتى أمدت البلاد بالمتخصصين فى كل المجالات والذين هم فعلاً عمد النهضة العربية الحديثة واقتبسنا الأساليب الحديثة فى الزراعة والرى والحفاظ على الصحة العامة. واقتبسنا أساليب الصناعة الحديثة. واقتبسنا أخيراً أساليب الإعلام الحديثة من إذاعة وتليفزيون، باختصار شديد مجمل ما نعيش فى ظله من منجزات حضارية مقتبس مباشرة من الحضارة الغربية.
ترى ما العيب فى ذلك؟ وهل كانت لديناــ لحظة التفاعل الحضارى مع الغرب ــ حضارة وطنية بديلة قادرة على إشباع الحاجات المادية والروحية للجماهير، وتركناها عامدين متعمدين، واتجهنا إلى الغرب؟ أم أنناــ فى تلك اللحظة التاريخيةــ كنا نرسف فعلاً فى إسار التخلف المادى والحضارى معاً، وكان هذا الحل... هو الحل الوحيد؟.
غير أننا تعودنا منذ زمن على الخطاب الإسلامى التقليدى الذى درج كل صباح ومساء على هجاء الغرب- هكذا على الإطلاق وبدون تفرقة بين ثقافاته المتعددة- وعلى الادعاء بأننا فقط من دون خلق الله نحتكر الروحيات فى حين يرسف هذا الغرب الملحد فى الماديات. وهى ثنائية زائفة كما هو واضح، ولا علاقة لها لا بالتاريخ ولا بالحقيقة. ولكن لا بأس! هذه وجهة نظر فريق منا آثروا الاستناد إلى عمود الماضى، واعتمدوه باعتباره مرجعيتهم الأساسية فى فهم الحاضر واستشراف المستقبل. غير أن هذا الخطاب لو قنع بذلك لما كان فى ذلك ضير، غير أنه حين يتحول ليصبح خطاباً سياسياً يستخدم مختلف الأساليب لتقويض الدولة الراهنة، وإلغاء دستورها، وتغيير طبيعة المجتمع، باسم الحاكمية لله وليست للبشر، وبدعوى أن العلمانية التى تدعو إلى الفصل بين الدين والدولة شرك بالله، فنحن نكون أمام ظاهرة بالغة الخطورة، ينبغى التصدى الثقافى لها، لأن هذا الخطاب الدينى السياسى، يعد هو منبع الإرهاب العشوائى الذى استشرى فى الآونة الأخيرة.
ولو حللنا بدقة أنماط الخطاب الإسلامى التكفيرى المختلفة لاكتشفنا أن أبرزه خطابان. الأول يدعى أصحابه ــ ومنهم كتاب إسلاميون معروفون ــ أن العلمانيين ماديون ملاحدة، وحتى هؤلاء العلمانيين الذين يؤمنون بالله خالقاً لهذا الكون وما فيه ومن فيه ولو أنهم مؤمنون إلا أنهم كافرون بالله كمدبر وحاكم فى شئون الدنيا والدولة.
أما النمط الثانى من الخطاب التكفيرى فهو يزعم أنه كما أن هناك تطرفاً دينياً فهناك أيضاً تطرف علمانى، وكأن أصحابه يريدون بغير مباشر الدفاع عن التكفير والذى هو الأساس الفكرى لكل التنظيمات الإرهابية!.