فى العادة تبدأ الكوارث الكبرى بمشكلات صغيرة تقع هنا أو هناك وإذا أهملت هذه المشكلات فإنها سرعان ما تتحول إلى أزمات مستحكمة تستلزم الاهتمام والمعالجة العلمية وفق قواعد وضوابط ما أضحى معروفاً باسم «علم إدارة الأزمات»
ولكن إذا غاب الاهتمام وكان التجاهل أو التقاعس هو رد الفعل المعتاد والطبيعي، وإذا لم تتم إدارة تلك الأزمات بالمنهاجية العلمية وضوابطها، فإن المحصلة أو النتيجة الطبيعية هى أن تتطور الأزمات وتتحول إلى كوارث من صنع الإنسان، وبتحديد أكثر من صنع الأجهزة الحكومية المختصة، وإذا غابت المحاسبة والمراقبة لهذه الأجهزة الحكومية من جانب جميع الأجهزة الرقابية المتخصصة وفى مقدمتها بالطبع المراقبة الشعبية من خلال البرلمان ولجانه المعنية، فإن الكوارث، وتكرارها تؤدى حتماً إلى سقوط الدول أو تحولها على الأقل إلى «دول فاشلة».
بكل أسف، نستطيع أن نقول إننا لم نمتلك بعد الحد الأدنى من الاهتمام للاكتشاف المبكر للمشاكل والتهديدات، وليس عندنا الحد الأدنى من الاكتراث للحيلولة دون تحول المشاكل إلى أزمات، ولا نعطى الحد الأدنى من الاهتمام لإدارة الأزمات كى لا تتحول إلى كوارث. فعلنا ذلك مع الإرهاب الأسود الذى يحمل اسم «الإرهاب الإسلامي» أى الإرهاب الذى يتخفى وراء شعارات إسلامية من نوع «الخلافة» والدعوة إلى إقامة «دولة الخلافة الإسلامية». لم نكترث بالمصادر الحقيقية المغذية لتيار ما يُعرف بـ «السلفية الجهادية» الذى تخفى فى مراحله الأولى فى تيار السلفية، والذى احتمى بالدعوة إلى «حكم الشريعة» وإلى آيات «ومن لم يحكم بما أنزل الله»، ولم نهتم بالتوظيف المنحرف لهذه الآيات عند «سيد قطب» المنظر الإخوانى الشهير المرتكز فى فكره إلى تراث أستاذه أبو الأعلى المودودي، الذى كان مدخلاً لتكفير الدولة والمجتمع والناس، لأنهم فى نظرهم «لا يحكمون بما أنزل الله»، لم تهتم الدولة بأجهزتها الأمنية والسياسية والتعليمية والتثقيفية والإعلامية، بدعوة التكفير التى تجمع بين معظم مدارس وفصائل «التيار السلفي»، ولم تعط أهمية بتحولات كثير من هذه الفصائل من الدعوة السلفية إلى السلفية الجهادية، ولم نكترث باندفاع وهجرة عشرات الآلاف من المصريين للانخراط فى تيار السلفية الجهادية ضمن تنظيم «القاعدة» و«حركة طالبان» وحربهما فى أفغانستان، ومن بعدها الحرب فى العراق ثم فى سوريا، وكانت النتيجة أن مصر باتت ضمن مخطط «الدولة الإسلامية» التى كانت تعرف قبل 30 يونيو 2014 بـ «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» (داعش) التى بدأت فى تحريض الإخوان والسلفيين فى مصر للانخراط فى «الحرب الجهادية» التى تدور على أرض سيناء لتحويلها إلى «ولاية إسلامية» أو على الأقل الهجرة من «أرض الكفر» فى مصر والالتحاق السريع بدولة الخلافة الإسلامية المقامة على أرض العراق والشام.
وما حدث مع الكارثة الإرهابية التى تواجه مصر الآن، يحدث أيضاً مع مشاكل كثيرة سياسية واجتماعية واقتصادية آخذة فى التحول إلى أزمات، وإذا لم تجد الاهتمام الكافى والعناية اللازمة والمعالجة العلمية الدقيقة والمواجهة الصارمة من الدولة فإنها سوف تتحول حتماً من أزمات إلى كوارث.
أزمة حوادث الطرق التى نعيش مآسيها هذه الأيام هى مثال صارخ وعميق الدلالة على تحالف الإهمال مع الفساد مع الرشوة والمحسوبية وغياب الرقابة والمحاسبة وتجاهل القوانين وعدم احترامها. وبكل أسف مازلنا لا نري، ولا نريد أن نرى الوجه الآخر لهذه الأزمة، نتعامل بالقطعة وحسب الأحوال مع وجه واحد من وجهى الأزمة هو الوجه الظاهر وهو السائق فقط الذى قد يوصف بأنه غير مسئول، أو أنه مدمن للمخدرات، وعادة ما تؤول كل حادثة إلى إصدار السيد النائب العام، بعد كل حادث مفجع يروح ضحيته العشرات على أسفلت الطرق أو قضبان السكك الحديدية، أوامره بفتح تحقيق عاجل فى الحادث، وضبط وإحضار سائق السيارة أو سائق القطار المتسبب فى الحادث، وتكليف النيابة المختصة بالانتقال إلى موقع الحادث للمعاينة وإعداد تقرير عاجل عن الحادث وأسبابه، وهو التقرير الذى لا يخرج عادة عن واحد من اثنين، إما السرعة الزائدة وإما أن السائق كان متعاطياً للمخدرات، وربما يكون القضاء والقدر طرفاً ثالثاً. وقد يصدر رئيس الوزراء أو السيد المحافظ أوامره بصرف التعويضات لأسر الضحايا والمصابين، وهذا ما يحدث حرفياً عقب كل كارثة دون أى اهتمام بالبعد الآخر أو الوجه الآخر للكارثة.
فنحن لا نهتم عادة بسلامة الطرق ولا نسعى إلى إصلاحها ومعالجة تعرجاتها الغريبة، وإضاءتها المظلمة، ولا نهتم بتوفير كل وسائل الحماية والأمان والإسعاف ولا بعدم وجود مستشفيات صالحة للتعامل مع الآدميين على هذه الطرق وإجراء الجراحات اللازمة والعمليات الضرورية. لا نهتم بسلامة المركبات، ولا نجرى لها الفحص الميكانيكى الدورى والحقيقى وليس الشكلى الغارق حتى أذنيه فى الفساد والرشوة، ولا نهتم بالحمولات الزائدة لسيارات النقل الثقيل، ولا الإضاءات الباهرة الموجودة أعلى تلك السيارات التى تصيب كل من يسيرون فى الطريق الموازى المعاكس بالعمى المؤقت وتتسبب فى حوادث هائلة، ولا نهتم بكاميرات الطرق القادرة على تصوير من يسيرون فى الاتجاه العكسي، أو بالسرعة الزائدة. لا نشرع القوانين القادرة على تغليظ عقوبات على السرعة الزائدة والسير عكس الطريق وتجاوز إشارات المرور نهاراً أو مساءً، وإذا أصدرنا التشريعات فلا نعطى أولوية لأخلاقيات وضوابط تطبيق القانون من جانب رجال المرور حتى لا يتعسف أحدهم فى توجيه اتهامات لبعض السائقين لعدم الحصول على الرشوة المطلوبة.
لكن الأهم أننا لا نسأل أبداً عن سلامة الحالة الذهنية للسائق وسلامته الاجتماعية وبالتحديد الأسباب التى تدفعه إلى تناول المخدرات والسرعة الزائدة، وبالذات سائقى النقل والميكروباص ولا نحاول علاجها، هؤلاء يعانون ولا يكترث أحد بهم، هم يواجهون المخاطر فى كل لحظة دون أى نوع من التأمين المعيشى أو العلاجي. فهم يسددون أقساط التأمينات المطلوبة، لكن السائق يجد نفسه بعد بلوغ سن التقاعد يصرف معاشاً شهرياً لا يزيد على 300 أو 400 جنيه لا تكفى لمصاريف جنازة أى منهم فى حالة الوفاة، وليس لهم أى نظام تأمين صحى خاص فى حالة الإصابة، وهم يبررون تعاطى المخدرات بأنهم يريدون نسيان همومهم، والهروب منها، ويريدون التغلب على الإحساس بالإرهاق من خلال بعض العقاقير المخدرة التى تغيبهم عن الوعي.
نحن فى حاجة إلى معالجة شاملة لكل جوانب الأزمة، نحن فى حاجة إلى تفعيل ما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسى بوضع خطة قومية لمعالجة منع وقوع مثل هذه الحوادث، ووضع تصور متكامل لسبل تجنب حوادث الطرق، لكننا فى حاجة أيضاً إلى مواجهة ما أسماه السيد رئيس الحكومة بـ «إرهاب الإهمال» وإلى مواجهة ما هو أسوأ منه وهو «إرهاب الفساد» الذى يعشعش فى كافة الأجهزة الحكومية وأجهزة المحليات ويفاقم من تفاقم المشكلات وهو المسئول عن تطورها لتتحول إلى «كوارث قومية» تهدد الأمن والاستقرار الوطنى.