هل المشكلة سياسية تتعلق بفشل الممارسة الديموقراطية أو تتعلق بسوء أداء بعض الدول العربية من حيث إخفاقها في إشباع الحاجات الأساسية لجماهير المواطنين، وتحولت بالتالى إلى دول فاشلة؟ أم هى مشكلة اجتماعية تتعلق بارتفاع معدلات الأمية وتدنى مستوى الأداء الاجتماعى مما أدى إلى جعل عقول الملايين من المواطنين البسطاء ملاذا للفكر التكفيرى؟
أم هى في الحقيقة مشكلة ثقافية في المقام الأول؟
ولقد سبق لنا فى دراسات سابقة أن قررنا أن الدولة العربية المعاصرة أخفقت فى تأسيس دول حديثة، بناء على مسلمات ومبادئ ونظريات المشروع الحضارى للحداثة الغربية. هذا المشروع الذى استطاعت أوروبا بالاستناد إليه، صياغة المجتمع الصناعى على أنقاض المجتمع الزراعى الإقطاعى، والذى تحول من بعد إلى مجتمع المعلومات العالمى، والذى يتحول ببطء إلى مجتمع المعرفة..
وكان رأينا أن أهم مبادئ الحداثة هو تجديد النظام السياسى، بحيث يقوم أساساً على تداول السلطة فى ظل مجتمع سياسى ديناميكى، يزخر بالأحزاب السياسية المتعددة ذات التوجهات الإيديولوجية المتنوعة، والتى تنقسم تقليديا إلى اليمين والوسط واليسار مع تنويعات شتى. فيمكن الحديث مثلاً عن يمين الوسط أو يسار الوسط، حسب النزعة الفكرية الغالبة.
ودولة الحداثة أيضاً تقوم على أساس سيادة القانون، والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، بالإضافة إلى حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم.
ومن الواضح إذا استعرضنا هذه المقومات لدولة الحداثة أن الدولة العربية المعاصرة سقطت فى الاختبار، لأنها لم تستطع أن تطبق هذه المبادئ والمعايير.
ومن هنا خلصنا إلى نتيجة مهمة، مفادها أن الدولة العربية المعاصرة بأنظمتها السياسية المتعددة ملكية كانت أو جمهورية أو تقليدية، تركت «الحداثة» جانباً وحاولت أن تستمد شرعيتها من عملية «التحديث» Modernization، بمعنى إدخال إصلاحات اقتصادية متنوعة وسياسية فى الحد الأدنى، لنقل المجتمع التقليدى إلى مجتمع عصرى.
(2)
غير أننا إذا أردنا أن نقيم حصاد عملية التحديث فى العالم العربى طوال الاعوام الخمسين الماضية، فيمكننا أن نخلص إلى أن المعدلات كانت منخفضة. ولعل هذا هو السبب الكامن وراء الأزمة الثقافية العربية الراهنة، التى تعانى منها كافة الدول العربية بدون استثناء.
وهذا التفسير يقدمه باحث إيرانى نشر من زمن على شبكة الإنترنت مقالة مهمة لافتة للنظر، لأنها تتضمن تحليلاً ثقافياً متعمقاً للظاهرة. والمقالة التى كتبها «محمد رضا فارسى» مترجمة للإنجليزية من اللغة الفارسية، وعنوانها «الأزمة الثقافية فى بلاد الإسلام: ضآلة معدلات التحديث».
والفكرة المحورية للمقالة أن هذه الأزمة الثقافية لها جذور تاريخية عميقة. فهى ليست نتاج التطورات الاقتصادية فى العقود القليلة الماضية، بالرغم من أن هذه التطورات لها دور فى نشر هذه الأزمة وزيادة خطورتها. ومن المعروف أنه بالنسبة لأى تنمية اقتصادية لابد لها أن تمر من أبواب نظام سياسى وثقافى محدد. ومن ناحية أخرى فإن أى تغير بنيوى فى المجتمع غالباً ما يثير مواجهات ثقافية وسياسية.
وإذا نحن لم نختزل النظام الرأسمالى فى المجال الاقتصادى، فإنه يمكن القول إن الأزمة الثقافية تعد تعبيراً عن التناقض بين المركز والمحيط Centre Periphery للنظام الرأسمالى العالمى.
والأزمة الثقافية التى نشير إليها هى مجموعة من المواجهات التى تزايدت حدتها بحكم تزايد تأثير الثقافة الغربية فى معظم البلاد الإسلامية، مما أدى إلى توتر ثقافى. وهذا التوتر الذى ساد بين التيارات التقليدية والتيارات العصرية فى المجتمع جعل الحوار بين الجناحين يكاد يكون مستحيلاً. فالعداء بينهما والكراهية المتبادلة جعلت المواجهات بينهما تتم بشكل دائم.
ولعل المواجهات الثقافية بين العلمانيين العرب والإسلاميين المتشددين، تعد نموذجاً بارزاً لهذا الصراع الثقافى. ولا يمكن القول إن التحديث بذاته أو عملية التنمية الرأسمالية، هى بالضرورة التى أدت إلى هذا الانفصام بين التيارين التقليدى والعصرى. وذلك لأن الأزمة الثقافية فى العالم العربى والإسلامى ليست أزمة عادية تتمثل فى مشكلات الانتقال من مرحلة ما قبل الرأسمالية وما قبل الحداثة إلى مجتمعات رأسمالية وحديثة، ولا هى نتاج التنمية الرأسمالية فى دول الأطراف، أو محصلة تناقضات التنمية الرأسمالية التى حدثت فى العقود القليلة الماضية، ولكنها ترد إلى أسباب متعددة أخرى تستحق أن نحلل أبعادها المختلفة.
(3)
ولكى نفهم طبيعة هذه الأزمة لابد لنا أن نشير أولاً إلى ظاهرة المركزية الأوروبية. والمقصود أن النموذج الحضارى الأوروبى اعتبر فى نظر الأوروبيين هو المرجع الذى ينبغى الاستناد إليه فى تحديد معانى التخلف ومعايير التقدم.
وبالتالى فإن عملية التنمية فى المجتمع وكيفية تحقيقها لابد أن تعتمد على المعايير الأوروبية.
غير إننا ننسى فى غمار المناظرات القائمة فى العالم العربى بين الأصالة والمعاصرة، أن أوروبا نفسها لم تحقق معاصرتها إلا بعد أن دخلت القوى السياسية البورجوازية الصاعدة فى معركة شرسة ودامية مع القوى التقليدية والمحافظة والرجعية فى المجتمعات الأوروبية.
فى ضوء ذلك يمكن القول إنه فى تحليل الأزمة الثقافية العربية يتم عادة تجاهل حساسية المجتمعات غير الأوروبية إزاء الطابع الأوروبى المتمركز حول الذات والذى يسمى الثقافة الحديثة.
ولا شك أن التفوق الاقتصادى والتكنولوجى الأوروبى استخدم لفرض السيطرة على المجتمعات غير الأوروبية، بالإضافة إلى جاذبية الثقافة الأوروبية التى من خلالها يتم الترويج لقبول منطق الرأسمالية. وهكذا أدى تجاهل الوقائع التاريخية إلى تناسى أن رفض المجتمعات غير الأوروبية للثقافة الحديثة كانت فى جزء منها على الأقل رفضاً للسيطرة الأوروبية.
ولعل هذا التناقض البارز فى المشروع الأوروبى الرأسمالى بين سماته الحداثية ونزعته للسيطرة على الشعوب فى نفس الوقت، هو الذى أوجد صعوبات جمة فى تعميق ونشر الثقافة الحديثة فى المجتمعات غير الأوروبية.
ويلفت النظر أن مفكرى النهضة العربية الأولى اتخذوا من النموذج الحضارى الغربى مرجعاً لنقل المجتمعات العربية من التخلف إلى التقدم. غير أنهم اكتشفوا من خلال الممارسة أن الغرب نفسه حامل قيم الإخاء والحرية والمساواة، هو الذى قام باستعمارهم واحتلال أراضيهم، وأوقف اتجاه التطور الوطنى الذى كان سائراً فى طريقه فى عديد من الأقطار، مثل مصر وتونس. ومعنى ذلك وفى ضوء التحليل التاريخى الدقيق أن المركزية الأوروبية بما تضمنته من قيم ومبادئ ومعايير ومحاولة فرضها بالقوة على البلاد العربية، ومحاربتها لمحاولات النهضة الوطنية، هى المسئولة عن تولد المشاعر العدائية إزاء الحداثة الغربية.
ولعله من الأهمية بمكان أن نؤكد أن هذه ليست حقيقة تاريخية فحسب، بل إنها مازالت تفعل فعلها حتى الآن، حيث نتبنى تيارات إسلامية متشددة اتجاهات سلبية إزاء النموذج الحضارى الغربى.