مستقبل حرية الإبداع.. في النظام السياسي الجديد
الأحد 29/ديسمبر/2013 - 11:49 ص
بسام صلاح الدين
مما لا شك فيه أن حرية الإبداع ليست فقط أحد موارد الدخل القومي المصري، ولكنها مصدر من مصادر “,”القوة الناعمة Soft power “,” التي استطاعت –وما زالت- أن تؤثر بالإيجاب لصالح مصر في الكثير من البلدان العربية والإسلامية وغيرها. وقد رأينا الكثيرين من الفنانين العالميين يقومون بتقليد رموز مصرية كبيرة مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وسيد رويش..إلخ. والبعض الآخر تأثر بالثقافة المصرية عن طريق قراءة شعر وروايات عبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ وعلاء الأسواني وغيرهم.
لا أحد يستطيع أن ينكر بأن التدخل الخارجي في شئون الدول الآن بالقوة الثقافية والإبداعية، وليس بالقوة العسكرية أو الاحتلال، كما كان في السابق. فالولايات المتحدة استطاعت غزو العالم عن طريق القوة الناعمة الأمريكية من خلال الفن والإبداع وأسلوب الحياة الأمريكي، فمن منا، وفي العالم، لا يشاهد الأفلام أو دخل مطاعم الأمريكية؟! على الرغم من اختلاف البعض مع السياسة الأمريكية.
وإذا كان لبعض الأشخاص كاريزما، فإن لبعض الدول “,”قوة ناعمة“,”. وقد شهدت التسعينيات مولد هذا المصطلح على يد جوزيف ناي (أمريكي)، الذي يرى أن أي نظام سياسي يقوم على ثلاث قوى: القوتين العسكرية، والاقتصادية، ويشار إليهما بالقوة الخشنة، في مقابلة القوة الناعمة التي يمكن تحقيقها من خلال العلاقات الإيجابية مع الحلفاء والدعم الاقتصادي والتبادل الثقافي. فمكونات القوة الناعمة تعزز التأييد والمصداقية لدى الرأي العام الإقليمي والعالمي. ومن خلالها تسعى الدولة للحصول على التأييد والتمدد في المجتمع الدولي من خلال انجذاب الآخرين للنموذج الذي تقدمه.
وترتكز القوة الناعمة على أركان، أهمها صناعة الإعلام والسينما، والأفكار الأيديولوجية التي تقدم نجاحات على أرض الواقع. فبوسع القوة الناعمة تحدي الإرهاب وتجفيف منابعه، وباستطاعتها تحقيق شراكات اقتصادية ناجحة وخطط تنموية بعيدة المدى. وهي البديل الأفضل لمفهوم الحرب الشاملة أو استخدام القوة المسلحة، دون أن تتحمل كلفة الحرب الباهظة، أو فاتورة الرشوة تحت اسم المعونة.
فالقوة الناعمة هي بمثابة سلطة شرعية تمنحك سلطانًا وتأثيرًا في الآخرين، وحملهم على السمع والطاعة. ولعل صناعة السينما والإعلام تحظى بالنصيب الأوفر في رصيد القوة الناعمة، وكذلك المؤسسات ذات البعد الإقليمي والعالمي “,”الأزهر في الحالة المصرية“,”، وكذلك الموارد البشرية “,”المكون الديموجرافي“,”، كما كان حال العمالة المصرية في صناعة النهضة في اقتصادات النفط الخليجية. ولقد كانت السينما والدراما المصرية ومن قبلهما الأدب بشعره ونثره أكبر مكونات القوة الناعمة المصرية في محيطها العربي.
وفي مصر، قبل وبعد الثورة، كان هناك قلق من الجميع في مصر والعالم العربي من غزو المسلسلات والإفلام التركية، والذي ما زال مستمرًّا حتى الآن، خاصة بعد أن استعصى على تركيا من اختراق الأوساط السياسية والاقتصادية العربية.
في الواقع، كان هناك اعتقاد بأن الثورة، التي أسقطت نظامًا قمعيًّا، ستفتح الباب واسعًا لحرية الإبداع، وأنها أصبحت أمرًا واقعًا لا رجوع فيه، وحقًّا مكتسبًا لن يُنتقص، ولكن الأشهر التالية حملت أحداثًا أجبرت الكثيرين على تغيير قناعتهم تلك، والنظر للأمر بطريقة مغايرة، وازاد الأمر قلقًا على مستقبل حرية الإبداع بعد الثورة التي كان من ضمن أهم أهدافها الحرية.
وبدايةً يود الباحث أن يوضح ما هو المقصود من مصطلح حرية الإبداع، فكثيرًا ما يحدث خلط بين هذا المصطلح وبين حرية الرأي والتعبير، ولكن الحقيقة هي أن حرية الرأي والتعبير جزء من حرية الإبداع، التي يُقصد بها: “,”الحق في الإبداع، والتعبير عن هذا الإبداع بكل الوسائل الممكنة؛ من رسم، ونحت، وتمثيل، وكتابة، وأي وسيلة أخرى“,”.
صراع تاريخي لحرية الإبداع في مصر
مرت حرية الإبداع في مصر بمراحل كثيرة كان فيها منحنى الحرية يتراوح صعودًا وهبوطًا؛ تبعًا لتغير النظام السياسي والظروف المجتمعية. وبدءًا من عام 1923، بعد كتابة أول دستور لمصر في عهد الملك فؤاد الأول، والذي يُنظر إليه الآن باعتباره أكثر الدساتير المصرية دعمًا للحرية والمواطنة، كانت حرية التعبير عن الرأي بكافة الأشكال مكفولة دستوريًّا ( [1] ) ، وكذلك حرية الاعتقاد التي كانت مطلقة بنص الدستور ( [2] ) ، وهو ما جعل الفترة من 1923 إلى 1952 من أثرى فترات مصر على المستوى الإبداعي، وهو ما يشهد عليه قيمة وقامة مفكري وأدباء وفناني هذه الفترة. وظل دستور 1923 ساريًا حتى أعلن مجلس قيادة الثورة في 10 ديسمبر 1952 إلغاءه نهائيًا.
وفي الفترة التي أعقبت ثورة 1952، وبالرغم من أنها كانت فترة مزدهرة من ناحية انتشار الإبداع المصري وهيمنته على الوطن العربي كله، وصعود قوة مصر الناعمة جنبًا إلى جنب مع صعود القومية العربية ودعاتها، إلا أن حرية الإبداع في ذلك الوقت كانت مكفولة في اتجاه واحد فقط، القومية العروبية، التي كان يمثلها في ذلك الوقت جمال عبدالناصر، وفي هذا الاتجاه كان الإبداع يتجلى بكل الصور، ووسط الأصوات العالية التي كانت تغني للقومية، والتي رفعت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، لم يلتفت أحد لحقيقة أن إطلاق حرية الإبداع هي الضامن الحقيقي لتقدم وحرية الشعوب.
في النهاية كانت الصدمة عام 1967 التي كسرت الحلم القومي، وبدأت تظهر مراجعة لأفكار الحقبة الناصرية بالكامل؛ وكنتيجة مباشرة للقمع الفكري الذي مورس على كل التيارات المخالفة للفكر القومي، وكان من ضمنها التيارات الدينية بالطبع، انطلقت هذه التيارات، واستغلت الموقف للوثوب على المشهد في مصر، خصوصًا مع حديثهم عن أن النكسة كانت نتيجة البعد عن الله والدين والاحتفاء بقيم الغرب.
وبوفاة عبدالناصر ومجيء السادات بدأ فصل جديد في تاريخ معركة حرية الإبداع في مصر، وفي ذلك الوقت أصبحت حرية الإبداع ليست أسيرة الرؤى السياسية فقط، ولكن دخل الفكر الديني والجماعات الدينية كمؤثر شديد الأهمية على حرية الإبداع، وللأسف حدث ذلك بدعم من الدولة، وهو ما جعل نفوذ هذه الجماعات يتزايد بسرعة كبيرة في خلال وقت قصير، وتزايد تأثيره على مثقفي ومبدعي هذه الفترة، خصوصًا مع استخدام العنف من قِبل التيارات الدينية لفرض رؤاها على المجتمع، مع تجاهل الدولة وغض بصرها عن هذا.
وبالفعل تآكلت مساحة حرية التعبير والإبداع بسرعة، حتى وصلنا في نهاية الثمانينيات إلى حال متأخرة كثيرًا عما كنا عليه قبلها بـ50 عامًا. وجاء عصر مبارك الذي لم يختلف كثيرًا عن السادات في المساحة الممنوحة لحرية الإبداع، وإن حاول مبارك في السنوات العشر الأخيرة من عهده زيادة هامش الحرية، وهو ما حدث بتأثير انتشار الإنترنت، الذي فتح مجالًا واسعًا للتعبير عن الحرية، وكان في الصدارة مدونو مصر، الذين اقتحموا كل الخطوط الحمراء والحواجز بكل الوسائل الممكنة؛ للتعبير عن رأيهم وتحدي سلطة المجتمع.
ثورة الحرية.. واستمرار التضييق على حرية الإبداع
على الرغم من أن الوقت ما زال مبكرًا لتقييم الثورة ومنجزاتها، حتى الوصف الذي وصفت به من قبل الكثيرين بأنها ثورة شبابية شعبية سلمية ملتزمة ومتزنة في فعلها الثوري، محل نقد ومراجعة الآن؛ حيث هناك من يريد إخراجها عن السلمية من ناحية، كما أن النخبة التي تتولى الحكم الآن تقوم بنفس المهمة والأهداف، بقصد أو بدون قصد.
وعامة، يمكن اعتبار ثورة 25 يناير، نتيجة مباشرة للنضال الحقوقي والسياسي الذي اعتمد على الإبداع في خلق طرق ووسائل جديدة للاحتجاج وإبداء الرأي، بدايةً من حركة كفاية، التي تزامن ظهورها مع انتشار التدوين في مصر، مرورًا بمساحات النضال السياسي على رصيف مجلس الشعب وسلالم نقابة الصحفيين، والتظاهرات المبدعة التي كانت تقوم بها الحركات الشبابية؛ مثل المظاهرات التي قامت بها حركة كفاية، واستخدمت فيها أواني الطهي، والوقفات الصامتة بملابس سوداء في الشوارع الرئيسية للمدن وغيرها، انتهاءً بصفحة «كلنا خالد سعيد» التي نشرت موعد ومكان قيام المظاهرات، في سابقة لا أعتقد أنه من الممكن تكرارها.
وكان طبيعيًّا بعد ثورة كانت مقدماتها تعتمد على الإبداع والتجديد أن تكون حرية الإبداع والتعبير هي المطلب الرئيسي لها، وهو ما تجسد في شعار الثورة الرئيسي “,”عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية“,”؛ ولا يوجد دليل على مكانة حرية الإبداع في الثورة أكبر من لافتات وهتافات الثورة التي قيلت طوال الـ18 يومًا بميدان التحرير، والتي ظهر فيها التوق للحرية، ومحاولة التعبير بإبداع في كل شيء من لافتات وهتافات وأفكار.
وبعد ثورة 25 يناير انفتحت كل الطاقات أمام الإبداع، واعتقد غالبية المصريين أن التكميم والرقابة قد انتهوا إلى غير رجعة، ولكن بمرور الأيام اكتشف الجميع أن الحدود لم تنته تمامًا، ولكنها اتسعت فقط، وظهر التضييق على الإعلاميين وأصحاب الرأي المختلفين مع السلطة الحاكمة آنذاك – ممثلة في المجلس العسكري– وجرى التحقيق مع عدد من الإعلاميين والصحفيين أمام القضاء العسكري والقضاء المدني، لم تنته التحقيقات إلى قرار بالإدانة، ولكن تم استخدامها لإرهاب أصحاب الرأي والمبدعين والإعلاميين.
وبالإضافة للضغوط السياسية على حرية الإبداع ظهرت ضغوط دينية، وزادت حدتها بعد انتخاب مجلس الشعب بأغلبية إسلامية، وكانت دعاوى التكفير التي تخرج من رموز إسلامية داخل البرلمان وخارجه، والحديث عن تغطية التماثيل وتطبيق الشريعة الإسلامية، والقضايا التي رُفعت ضد فنانين وإعلاميين، أهم الضغوط التي واجهت حرية الإبداع، ولكن في ذلك الوقت كان ينظر للأمر على أنه مجرد تهديدات ليس لها قيمة على الأرض، وإن كانت بالتأكيد مؤثرة على المناخ العام؛ ومع اقتراب الفترة الانتقالية من نهايتها كانت تزداد الضغوط السياسية والدينية معًا، ولكن وسط الزخم السياسي الهائل الذي عاشته مصر، وانشغال الجميع بمعركة الانتخابات الرئاسية، كان تأثير هذه الضغوط غير ملحوظ على المشهد العام.
حرية الإبداع خلال الـ100 يوم الأولى للرئيس
بنهاية المرحلة الانتقالية بقيادة العسكر دخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها، يحكمها فيها لأول مرة رئيس مدني منتخب من الشعب بطريقة ديمقراطية؛ بالطبع كانت هناك مخاوف من صعود رئيس إسلامي، ولكن تطمينات ووعود المرشح الرئاسي محمد مرسي-آنذاك –هدأت من هذه المخاوف، وكانت التوقعات أن تكون هذه الانتخابات بداية التأسيس الحقيقي لحرية الإبداع وفق نظام قانوني وسياسي مستقر يكفل للمواطنين حقوقهم بدون انتقاص، ولكن هذا لم يحدث.
ومنذ الأيام الأولى، وقبل أن يكمل الرئيس الـ 100 يوم الأولى من حكمه ظهرت بوادر صادمة للتضييق على الحريات ( [3] ) ، وحدثت انتهاكات واسعة بلغ عددها 43 انتهاكًا، يمكن تصنيفها كالتالي: 12 رقابة ومنع مقالات، 6 مصادرة وإلغاء لصحف وبرامج، و5 اعتداءات على معارضين، 8 حالات ملاحقة قضائية لصحفيين وإعلاميين، 7 قضايا حسبة، 4 قضايا متعلقة بازدراء الأديان، وقضية رقابة على الإبداع الفني، ومحاولتين لفض تظاهرات واعتصامات سلمية بالقوة..
والملاحظ لحجم الانتهاكات ونوعها، مقارنة بالفترة القصيرة التي تولاها مرسي، يدرك أن الأمر ليس عشوائيًّا، ولكنه منهج وأسلوب متبع من قِبل نخبة جديدة وصلت للحكم، وتريد أن تظل قابضة عليه بنفس الأساليب القديمة، مع وضع لمستها الخاصة المتمثلة في قضايا الحسبة وازدراء الأديان، التي زادت وتيرتها في الفترة الأخيرة، وكان المدون والناشط «ألبير صابر» آخر ضحاياها بعد الحكم عليه يوم 12 ديسمبر2012 بالسجن لمدة 3 سنوات وكفالة 1000 جنيه، في مؤشر في غاية الخطورة يدل على أننا سوف ندخل في نفق مظلم مستقبلًا.
الصراع الخفي بين الفن والدين
يبرز إلى الأذهان مجموعة من الأسئلة الملحة حول مصير حرية الإبداع في مصر، في ظل سيطرة سياسية واجتماعية محتملة بقوة لأنصار التيار الديني من إخوان وسلفيين، وعلى وجه الخصوص بعض المتشددين من أنصار هذا التيار؛ فكيف ستبدو ملامح العلاقة القادمة بين الدين والفن في مصر؟ وماذا سيكون موقف الكتاب والفنانين وكافة المبدعين حال مصادرة حريتهم الإبداعية؟ وإلى أي حد تبدو الحلقات المفقودة بين مفاهيم أنصار التيار الديني في مصر ومفاهيم الآخر، المخالف لهم بالنسبة للفن والإبداع، وطبيعتيهما؟
فبعد الصعود اللافت لتيارات الإسلام السياسي بعد الثورة، سيطر على الوسط الفني حالة من القلق والتوجس على حرية الإبداع، خاصة في ظل انطلاق العديد من التصريحات المتشددة من بعض أقطاب الدعوة السلفية أمثال المهندس عبد المنعم الشحات، الذي وصف روايات نجيب محفوظ بأنها تشجع على الرذيلة والفجور، وأنها صورت مصر على أنها “,”خمَّارة كبيرة“,”، وهو -في رأيه- ما يجعل من العار تصور مصر والمصريين من خلال تلك الروايات. كما وصف المهندس الشحات رواية “,”أولاد حارتنا“,” بأنها رواية فلسفية تدعو إلى العلمانية والإلحاد.
من ثم فقد ثارت حالة من الخوف لدى كل الكتاب والمبدعين بعد أن استنتجوا أن إبداعاتهم المستقبلية، في ظل سيطرة التيار الديني، سوف يُنظر لها من خلال منظور ضيق ومفاهيم مغلقة، وهو بدوره ما جعل بعضهم يهدد بترك مصر وتجميد أي نشاط إبداعي كان يقوم به.
يضاف إلى ذلك أن ظهور سلسلة من القضايا المرفوعة ضد ممثلين وكتاب ومخرجين في الوسط الفني المصري ، ضاعفت من حجم التوجسات والمخاوف المتجهة في هذا الإطار؛ فقد صدر حكم بالحبس على الفنان الكوميدي عادل إمام، ورفعت قضايا بتهمة نشر الرذيلة والسحاق ضد كل من غادة عبد الرازق وسمية الخشاب، ودخل آخرون قضايا مشابهة؛ أمثال المخرج محمد فاضل، والسيناريست داود عبد السيد وغيرهما، وبدت في الأفق كذلك موجة من التصريحات المناهضة لبعض الفنون، كالموسيقى والنحت والفنون التشكيلية.
وعلى خلاف ما يدور في الوسط الفني، أكدت قيادات إسلامية ودينية ممن صعدوا إلى سدة الحكم في مصر من الإخوان والسلفيين، على أن التصريحات الهجومية المتشددة على الفن والفنانين، لا تمثل اتجاهًا عامًّا لديهم، وأنها تصريحات صدرت عن أفراد لا يمثلون المؤسسات أو الجماعات الدينية في مصر بشكل رسمي، وأنه لا مبرر مطلقًا لحالة الخوف الظاهرة في الوسط الفني تحسبًا لمصادرة الفن أو إلغائه أو منع الفنانين من أداء أعمالهم الفنية والسينمائية؛ حيث أوضح كل من الدكتور عماد الدين عبد الغفور، رئيس حزب النور السلفي، والمنتج السينمائي الإخواني محسن راضي، ومشرف الفن والدراما لدى الإخوان، الدكتور محمد النجار، وغيرهم، أنهم متمسكون برموز الفن في مصر؛ باعتبار أنهم يمثلون صناعة السينما والحضارة الفنية في مصر، وبأنهم من وجهة النظر الإسلامية، مؤمنين بانتفاء أي تعارض بين الدين والفن الذي يمثل الفطرة الإنسانية، وبأحقية اختيار كل فنان لفكره وفنه واتجاهه، بعيدًا عن منطق محاكم التفتيش والمصادرة والقمع لكل ما هو إبداعي أو فني، كما أوضحوا أنه إذا كانت هناك نية مستقبلية تجاه الفن في مصر، فإنها سوف تكون متجهة فقط لتهذيب المعوج من أنماط وسلوكيات السينما المبتذلة التي لا تقدم موضوعًا أو مضمونًا سوى الترويج للهلس والغرائز والسقوط الأخلاقي؛ مما لا يتوافق وطبيعة المجتمع المصري، وأن أية قيود في هذا الإطار التهذيبي لا تعد مصادرة أو حجر على الفن والفنانين، بل هي ضمانة للرقي بالعمل الفني واتفاق على نهضة فنية قادمة .
حرية الإبداع في الدستور الجديد:
جاءت مسودة الدستور المصري المطروحة حاليًّا بها الكثير من المعوقات للحقوق والحريات، ليس فقط في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولكن أيضًا في مجال الحريات والإبداع. فقد نصت المادة 45 الخاصة بحرية الرأي والتعبير على أن “,”حرية الفكر والرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل النشر والتعبير“,”. ومن الأهمية القول: إن هذه المادة في صياغتها وشمولها جيدة جدًّا، إلا أن المواد 10 و11 تعطي للدولة رقابة وتحكم بكل وسائل التعبير تحت دعوى حماية أخلاق المجتمع أو تقاليد الأسرة المصرية، وهي مفاهيم مطاطة، ومن الممكن استخدامها للتضييق على الحرية والإبداع وتفريغها من مضمونها.
وحتى الآن تبدو مقاومة المجتمع للتضييق على الحريات قوية، ولكن السؤال المهم هو: إلى أي مدى يستطيع المجتمع التصدي لذلك؟ ويعتقد الباحث أن هناك محددين رئيسيين لمستقبل حرية الإبداع في مصر، هما:
أولًا: التطور السياسي:
ترتبط الديمقراطية بشكل وثيق بحرية الإبداع، وتبدو العلاقة بينهما تبادلية، فتطور النظام السياسي، وقبول المجتمع للقيم الديمقراطية وممارسته لها وتأثره بها، يخلق مناخًا آمنًا ومستقرًّا لازدهار حرية الإبداع، كما أن حرية التعبير هي الضامن الحقيقي لاستمرار التجربة الديمقراطية، وتصحيح مسارها، وتجذيرها في وعي الشعوب؛ واعتمادًا على ما سبق، يعتقد الباحث أن مستقبل حرية الإبداع سيكون مرهونًا بمدى التزام النظام السياسي الجديد بالقيم الديمقراطية (وهو ما يبدو الآن محل شك كبير).
ثانيًا: تطور الفكر الديني:
بصعود التيار الديني سياسيًّا، فرضت القيم والتفسيرات الدينية نفسها كمحدد ورقيب على حرية الإبداع، وأصبحت التيارات الدينية التي وصلت للسلطة، تتحدث باسم الشعب وباسم الدين معًا، وفي حالة استمرار هذا لن نصل لديمقراطية ولن نصل لحرية، وبالتأكيد سنعود للخلف عشرات السنين؛ ولكن هناك رؤية أخرى ترى أن التجربة الديمقراطية قد تغير من القيم الحاكمة للتيار الديني وتنحو به باتجاه فهم منفتح للدين، يقبل الآخر المخالف في الرأي ولا يكفّره، يفهم الدين بطريقة أقل طائفية وأكثر تسامحًا، وفي هذه الحالة قد تصبح القيم الإسلامية جزءًا من ضمانات الحرية التي نادى وينادي بها المصريون منذ وقت طويل.
حرية الإبداع وسيناريوهات المستقبل
في ظل الواقع السياسي الذي تعيشه مصر الآن تنحصر سيناريوهات مستقبل حرية الإبداع في سيناريوهين، كما يلي:
أولًا: ازدهار حرية الإبداع، وسيحدث هذا في حالة استكمال مسيرة التحول الديمقراطي في مصر واستمرار تداول السلطة، وهو ما سينتج عنه ترسيخ القيم الديمقراطية، وتحولها من مجرد شعارات تنادي بها قوى سياسية، إلى ممارسات متجذرة على أرض الواقع، وهو ما سيخلق مناخًا آمنًا لازدهار حرية الإبداع وسينتج عن هذا تعاظم قوة مصر الناعمة وعودتها لسابق عهدها، وتحصين المجتمع ضد كل دعاوى الرجعية والإرهاب الفكري.
ثانيًا: تقلص المساحة الممنوحة لحرية الإبداع، وعودة الأمور لسابق عهدها، سيحدث هذا في حالة الارتداد عن المسار الديمقراطي، والعودة للمارسات السابقة من قمع كل ذي رأي تحت دعوى حماية المجتمع أو الدين أو الدولة، ولن يحدث هذا دون مقاومة من المجتمع الذي يبدو الآن قادرًا على حماية أحلامه، ولكن في حالة كسر هذه المقاومة الجمعية (وستكون كلفة هذا باهظة) ستظل قطاعات من المجتمع تحاول الوصول إلى ما تريده بالتحايل على شتى أنواع الرقابة، وسيستمر الصراع.. وقد يصل إلى مستويات جديدة تعيدنا عشرات السنوات إلى الوراء.
( [1] ) المادة 14 دستور 1923.
( [2] ) مادة 12 دستور 1923.
( [3] ) لمزيد من التفاصيل راجع تقرير الشبكة العربية لمعلومت حقوق الإنسان الصادر في 4 أكتوبر 2012 بعنوان « لا نعاديها ولا نكترث بها: حرية التعبير في ظل الرئيس المدني المنتخب، بعد ثلاثة أشهر » .
لا أحد يستطيع أن ينكر بأن التدخل الخارجي في شئون الدول الآن بالقوة الثقافية والإبداعية، وليس بالقوة العسكرية أو الاحتلال، كما كان في السابق. فالولايات المتحدة استطاعت غزو العالم عن طريق القوة الناعمة الأمريكية من خلال الفن والإبداع وأسلوب الحياة الأمريكي، فمن منا، وفي العالم، لا يشاهد الأفلام أو دخل مطاعم الأمريكية؟! على الرغم من اختلاف البعض مع السياسة الأمريكية.
وإذا كان لبعض الأشخاص كاريزما، فإن لبعض الدول “,”قوة ناعمة“,”. وقد شهدت التسعينيات مولد هذا المصطلح على يد جوزيف ناي (أمريكي)، الذي يرى أن أي نظام سياسي يقوم على ثلاث قوى: القوتين العسكرية، والاقتصادية، ويشار إليهما بالقوة الخشنة، في مقابلة القوة الناعمة التي يمكن تحقيقها من خلال العلاقات الإيجابية مع الحلفاء والدعم الاقتصادي والتبادل الثقافي. فمكونات القوة الناعمة تعزز التأييد والمصداقية لدى الرأي العام الإقليمي والعالمي. ومن خلالها تسعى الدولة للحصول على التأييد والتمدد في المجتمع الدولي من خلال انجذاب الآخرين للنموذج الذي تقدمه.
وترتكز القوة الناعمة على أركان، أهمها صناعة الإعلام والسينما، والأفكار الأيديولوجية التي تقدم نجاحات على أرض الواقع. فبوسع القوة الناعمة تحدي الإرهاب وتجفيف منابعه، وباستطاعتها تحقيق شراكات اقتصادية ناجحة وخطط تنموية بعيدة المدى. وهي البديل الأفضل لمفهوم الحرب الشاملة أو استخدام القوة المسلحة، دون أن تتحمل كلفة الحرب الباهظة، أو فاتورة الرشوة تحت اسم المعونة.
فالقوة الناعمة هي بمثابة سلطة شرعية تمنحك سلطانًا وتأثيرًا في الآخرين، وحملهم على السمع والطاعة. ولعل صناعة السينما والإعلام تحظى بالنصيب الأوفر في رصيد القوة الناعمة، وكذلك المؤسسات ذات البعد الإقليمي والعالمي “,”الأزهر في الحالة المصرية“,”، وكذلك الموارد البشرية “,”المكون الديموجرافي“,”، كما كان حال العمالة المصرية في صناعة النهضة في اقتصادات النفط الخليجية. ولقد كانت السينما والدراما المصرية ومن قبلهما الأدب بشعره ونثره أكبر مكونات القوة الناعمة المصرية في محيطها العربي.
وفي مصر، قبل وبعد الثورة، كان هناك قلق من الجميع في مصر والعالم العربي من غزو المسلسلات والإفلام التركية، والذي ما زال مستمرًّا حتى الآن، خاصة بعد أن استعصى على تركيا من اختراق الأوساط السياسية والاقتصادية العربية.
في الواقع، كان هناك اعتقاد بأن الثورة، التي أسقطت نظامًا قمعيًّا، ستفتح الباب واسعًا لحرية الإبداع، وأنها أصبحت أمرًا واقعًا لا رجوع فيه، وحقًّا مكتسبًا لن يُنتقص، ولكن الأشهر التالية حملت أحداثًا أجبرت الكثيرين على تغيير قناعتهم تلك، والنظر للأمر بطريقة مغايرة، وازاد الأمر قلقًا على مستقبل حرية الإبداع بعد الثورة التي كان من ضمن أهم أهدافها الحرية.
وبدايةً يود الباحث أن يوضح ما هو المقصود من مصطلح حرية الإبداع، فكثيرًا ما يحدث خلط بين هذا المصطلح وبين حرية الرأي والتعبير، ولكن الحقيقة هي أن حرية الرأي والتعبير جزء من حرية الإبداع، التي يُقصد بها: “,”الحق في الإبداع، والتعبير عن هذا الإبداع بكل الوسائل الممكنة؛ من رسم، ونحت، وتمثيل، وكتابة، وأي وسيلة أخرى“,”.
صراع تاريخي لحرية الإبداع في مصر
مرت حرية الإبداع في مصر بمراحل كثيرة كان فيها منحنى الحرية يتراوح صعودًا وهبوطًا؛ تبعًا لتغير النظام السياسي والظروف المجتمعية. وبدءًا من عام 1923، بعد كتابة أول دستور لمصر في عهد الملك فؤاد الأول، والذي يُنظر إليه الآن باعتباره أكثر الدساتير المصرية دعمًا للحرية والمواطنة، كانت حرية التعبير عن الرأي بكافة الأشكال مكفولة دستوريًّا ( [1] ) ، وكذلك حرية الاعتقاد التي كانت مطلقة بنص الدستور ( [2] ) ، وهو ما جعل الفترة من 1923 إلى 1952 من أثرى فترات مصر على المستوى الإبداعي، وهو ما يشهد عليه قيمة وقامة مفكري وأدباء وفناني هذه الفترة. وظل دستور 1923 ساريًا حتى أعلن مجلس قيادة الثورة في 10 ديسمبر 1952 إلغاءه نهائيًا.
وفي الفترة التي أعقبت ثورة 1952، وبالرغم من أنها كانت فترة مزدهرة من ناحية انتشار الإبداع المصري وهيمنته على الوطن العربي كله، وصعود قوة مصر الناعمة جنبًا إلى جنب مع صعود القومية العربية ودعاتها، إلا أن حرية الإبداع في ذلك الوقت كانت مكفولة في اتجاه واحد فقط، القومية العروبية، التي كان يمثلها في ذلك الوقت جمال عبدالناصر، وفي هذا الاتجاه كان الإبداع يتجلى بكل الصور، ووسط الأصوات العالية التي كانت تغني للقومية، والتي رفعت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، لم يلتفت أحد لحقيقة أن إطلاق حرية الإبداع هي الضامن الحقيقي لتقدم وحرية الشعوب.
في النهاية كانت الصدمة عام 1967 التي كسرت الحلم القومي، وبدأت تظهر مراجعة لأفكار الحقبة الناصرية بالكامل؛ وكنتيجة مباشرة للقمع الفكري الذي مورس على كل التيارات المخالفة للفكر القومي، وكان من ضمنها التيارات الدينية بالطبع، انطلقت هذه التيارات، واستغلت الموقف للوثوب على المشهد في مصر، خصوصًا مع حديثهم عن أن النكسة كانت نتيجة البعد عن الله والدين والاحتفاء بقيم الغرب.
وبوفاة عبدالناصر ومجيء السادات بدأ فصل جديد في تاريخ معركة حرية الإبداع في مصر، وفي ذلك الوقت أصبحت حرية الإبداع ليست أسيرة الرؤى السياسية فقط، ولكن دخل الفكر الديني والجماعات الدينية كمؤثر شديد الأهمية على حرية الإبداع، وللأسف حدث ذلك بدعم من الدولة، وهو ما جعل نفوذ هذه الجماعات يتزايد بسرعة كبيرة في خلال وقت قصير، وتزايد تأثيره على مثقفي ومبدعي هذه الفترة، خصوصًا مع استخدام العنف من قِبل التيارات الدينية لفرض رؤاها على المجتمع، مع تجاهل الدولة وغض بصرها عن هذا.
وبالفعل تآكلت مساحة حرية التعبير والإبداع بسرعة، حتى وصلنا في نهاية الثمانينيات إلى حال متأخرة كثيرًا عما كنا عليه قبلها بـ50 عامًا. وجاء عصر مبارك الذي لم يختلف كثيرًا عن السادات في المساحة الممنوحة لحرية الإبداع، وإن حاول مبارك في السنوات العشر الأخيرة من عهده زيادة هامش الحرية، وهو ما حدث بتأثير انتشار الإنترنت، الذي فتح مجالًا واسعًا للتعبير عن الحرية، وكان في الصدارة مدونو مصر، الذين اقتحموا كل الخطوط الحمراء والحواجز بكل الوسائل الممكنة؛ للتعبير عن رأيهم وتحدي سلطة المجتمع.
ثورة الحرية.. واستمرار التضييق على حرية الإبداع
على الرغم من أن الوقت ما زال مبكرًا لتقييم الثورة ومنجزاتها، حتى الوصف الذي وصفت به من قبل الكثيرين بأنها ثورة شبابية شعبية سلمية ملتزمة ومتزنة في فعلها الثوري، محل نقد ومراجعة الآن؛ حيث هناك من يريد إخراجها عن السلمية من ناحية، كما أن النخبة التي تتولى الحكم الآن تقوم بنفس المهمة والأهداف، بقصد أو بدون قصد.
وعامة، يمكن اعتبار ثورة 25 يناير، نتيجة مباشرة للنضال الحقوقي والسياسي الذي اعتمد على الإبداع في خلق طرق ووسائل جديدة للاحتجاج وإبداء الرأي، بدايةً من حركة كفاية، التي تزامن ظهورها مع انتشار التدوين في مصر، مرورًا بمساحات النضال السياسي على رصيف مجلس الشعب وسلالم نقابة الصحفيين، والتظاهرات المبدعة التي كانت تقوم بها الحركات الشبابية؛ مثل المظاهرات التي قامت بها حركة كفاية، واستخدمت فيها أواني الطهي، والوقفات الصامتة بملابس سوداء في الشوارع الرئيسية للمدن وغيرها، انتهاءً بصفحة «كلنا خالد سعيد» التي نشرت موعد ومكان قيام المظاهرات، في سابقة لا أعتقد أنه من الممكن تكرارها.
وكان طبيعيًّا بعد ثورة كانت مقدماتها تعتمد على الإبداع والتجديد أن تكون حرية الإبداع والتعبير هي المطلب الرئيسي لها، وهو ما تجسد في شعار الثورة الرئيسي “,”عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية“,”؛ ولا يوجد دليل على مكانة حرية الإبداع في الثورة أكبر من لافتات وهتافات الثورة التي قيلت طوال الـ18 يومًا بميدان التحرير، والتي ظهر فيها التوق للحرية، ومحاولة التعبير بإبداع في كل شيء من لافتات وهتافات وأفكار.
وبعد ثورة 25 يناير انفتحت كل الطاقات أمام الإبداع، واعتقد غالبية المصريين أن التكميم والرقابة قد انتهوا إلى غير رجعة، ولكن بمرور الأيام اكتشف الجميع أن الحدود لم تنته تمامًا، ولكنها اتسعت فقط، وظهر التضييق على الإعلاميين وأصحاب الرأي المختلفين مع السلطة الحاكمة آنذاك – ممثلة في المجلس العسكري– وجرى التحقيق مع عدد من الإعلاميين والصحفيين أمام القضاء العسكري والقضاء المدني، لم تنته التحقيقات إلى قرار بالإدانة، ولكن تم استخدامها لإرهاب أصحاب الرأي والمبدعين والإعلاميين.
وبالإضافة للضغوط السياسية على حرية الإبداع ظهرت ضغوط دينية، وزادت حدتها بعد انتخاب مجلس الشعب بأغلبية إسلامية، وكانت دعاوى التكفير التي تخرج من رموز إسلامية داخل البرلمان وخارجه، والحديث عن تغطية التماثيل وتطبيق الشريعة الإسلامية، والقضايا التي رُفعت ضد فنانين وإعلاميين، أهم الضغوط التي واجهت حرية الإبداع، ولكن في ذلك الوقت كان ينظر للأمر على أنه مجرد تهديدات ليس لها قيمة على الأرض، وإن كانت بالتأكيد مؤثرة على المناخ العام؛ ومع اقتراب الفترة الانتقالية من نهايتها كانت تزداد الضغوط السياسية والدينية معًا، ولكن وسط الزخم السياسي الهائل الذي عاشته مصر، وانشغال الجميع بمعركة الانتخابات الرئاسية، كان تأثير هذه الضغوط غير ملحوظ على المشهد العام.
حرية الإبداع خلال الـ100 يوم الأولى للرئيس
بنهاية المرحلة الانتقالية بقيادة العسكر دخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها، يحكمها فيها لأول مرة رئيس مدني منتخب من الشعب بطريقة ديمقراطية؛ بالطبع كانت هناك مخاوف من صعود رئيس إسلامي، ولكن تطمينات ووعود المرشح الرئاسي محمد مرسي-آنذاك –هدأت من هذه المخاوف، وكانت التوقعات أن تكون هذه الانتخابات بداية التأسيس الحقيقي لحرية الإبداع وفق نظام قانوني وسياسي مستقر يكفل للمواطنين حقوقهم بدون انتقاص، ولكن هذا لم يحدث.
ومنذ الأيام الأولى، وقبل أن يكمل الرئيس الـ 100 يوم الأولى من حكمه ظهرت بوادر صادمة للتضييق على الحريات ( [3] ) ، وحدثت انتهاكات واسعة بلغ عددها 43 انتهاكًا، يمكن تصنيفها كالتالي: 12 رقابة ومنع مقالات، 6 مصادرة وإلغاء لصحف وبرامج، و5 اعتداءات على معارضين، 8 حالات ملاحقة قضائية لصحفيين وإعلاميين، 7 قضايا حسبة، 4 قضايا متعلقة بازدراء الأديان، وقضية رقابة على الإبداع الفني، ومحاولتين لفض تظاهرات واعتصامات سلمية بالقوة..
والملاحظ لحجم الانتهاكات ونوعها، مقارنة بالفترة القصيرة التي تولاها مرسي، يدرك أن الأمر ليس عشوائيًّا، ولكنه منهج وأسلوب متبع من قِبل نخبة جديدة وصلت للحكم، وتريد أن تظل قابضة عليه بنفس الأساليب القديمة، مع وضع لمستها الخاصة المتمثلة في قضايا الحسبة وازدراء الأديان، التي زادت وتيرتها في الفترة الأخيرة، وكان المدون والناشط «ألبير صابر» آخر ضحاياها بعد الحكم عليه يوم 12 ديسمبر2012 بالسجن لمدة 3 سنوات وكفالة 1000 جنيه، في مؤشر في غاية الخطورة يدل على أننا سوف ندخل في نفق مظلم مستقبلًا.
الصراع الخفي بين الفن والدين
يبرز إلى الأذهان مجموعة من الأسئلة الملحة حول مصير حرية الإبداع في مصر، في ظل سيطرة سياسية واجتماعية محتملة بقوة لأنصار التيار الديني من إخوان وسلفيين، وعلى وجه الخصوص بعض المتشددين من أنصار هذا التيار؛ فكيف ستبدو ملامح العلاقة القادمة بين الدين والفن في مصر؟ وماذا سيكون موقف الكتاب والفنانين وكافة المبدعين حال مصادرة حريتهم الإبداعية؟ وإلى أي حد تبدو الحلقات المفقودة بين مفاهيم أنصار التيار الديني في مصر ومفاهيم الآخر، المخالف لهم بالنسبة للفن والإبداع، وطبيعتيهما؟
فبعد الصعود اللافت لتيارات الإسلام السياسي بعد الثورة، سيطر على الوسط الفني حالة من القلق والتوجس على حرية الإبداع، خاصة في ظل انطلاق العديد من التصريحات المتشددة من بعض أقطاب الدعوة السلفية أمثال المهندس عبد المنعم الشحات، الذي وصف روايات نجيب محفوظ بأنها تشجع على الرذيلة والفجور، وأنها صورت مصر على أنها “,”خمَّارة كبيرة“,”، وهو -في رأيه- ما يجعل من العار تصور مصر والمصريين من خلال تلك الروايات. كما وصف المهندس الشحات رواية “,”أولاد حارتنا“,” بأنها رواية فلسفية تدعو إلى العلمانية والإلحاد.
من ثم فقد ثارت حالة من الخوف لدى كل الكتاب والمبدعين بعد أن استنتجوا أن إبداعاتهم المستقبلية، في ظل سيطرة التيار الديني، سوف يُنظر لها من خلال منظور ضيق ومفاهيم مغلقة، وهو بدوره ما جعل بعضهم يهدد بترك مصر وتجميد أي نشاط إبداعي كان يقوم به.
يضاف إلى ذلك أن ظهور سلسلة من القضايا المرفوعة ضد ممثلين وكتاب ومخرجين في الوسط الفني المصري ، ضاعفت من حجم التوجسات والمخاوف المتجهة في هذا الإطار؛ فقد صدر حكم بالحبس على الفنان الكوميدي عادل إمام، ورفعت قضايا بتهمة نشر الرذيلة والسحاق ضد كل من غادة عبد الرازق وسمية الخشاب، ودخل آخرون قضايا مشابهة؛ أمثال المخرج محمد فاضل، والسيناريست داود عبد السيد وغيرهما، وبدت في الأفق كذلك موجة من التصريحات المناهضة لبعض الفنون، كالموسيقى والنحت والفنون التشكيلية.
وعلى خلاف ما يدور في الوسط الفني، أكدت قيادات إسلامية ودينية ممن صعدوا إلى سدة الحكم في مصر من الإخوان والسلفيين، على أن التصريحات الهجومية المتشددة على الفن والفنانين، لا تمثل اتجاهًا عامًّا لديهم، وأنها تصريحات صدرت عن أفراد لا يمثلون المؤسسات أو الجماعات الدينية في مصر بشكل رسمي، وأنه لا مبرر مطلقًا لحالة الخوف الظاهرة في الوسط الفني تحسبًا لمصادرة الفن أو إلغائه أو منع الفنانين من أداء أعمالهم الفنية والسينمائية؛ حيث أوضح كل من الدكتور عماد الدين عبد الغفور، رئيس حزب النور السلفي، والمنتج السينمائي الإخواني محسن راضي، ومشرف الفن والدراما لدى الإخوان، الدكتور محمد النجار، وغيرهم، أنهم متمسكون برموز الفن في مصر؛ باعتبار أنهم يمثلون صناعة السينما والحضارة الفنية في مصر، وبأنهم من وجهة النظر الإسلامية، مؤمنين بانتفاء أي تعارض بين الدين والفن الذي يمثل الفطرة الإنسانية، وبأحقية اختيار كل فنان لفكره وفنه واتجاهه، بعيدًا عن منطق محاكم التفتيش والمصادرة والقمع لكل ما هو إبداعي أو فني، كما أوضحوا أنه إذا كانت هناك نية مستقبلية تجاه الفن في مصر، فإنها سوف تكون متجهة فقط لتهذيب المعوج من أنماط وسلوكيات السينما المبتذلة التي لا تقدم موضوعًا أو مضمونًا سوى الترويج للهلس والغرائز والسقوط الأخلاقي؛ مما لا يتوافق وطبيعة المجتمع المصري، وأن أية قيود في هذا الإطار التهذيبي لا تعد مصادرة أو حجر على الفن والفنانين، بل هي ضمانة للرقي بالعمل الفني واتفاق على نهضة فنية قادمة .
حرية الإبداع في الدستور الجديد:
جاءت مسودة الدستور المصري المطروحة حاليًّا بها الكثير من المعوقات للحقوق والحريات، ليس فقط في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولكن أيضًا في مجال الحريات والإبداع. فقد نصت المادة 45 الخاصة بحرية الرأي والتعبير على أن “,”حرية الفكر والرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل النشر والتعبير“,”. ومن الأهمية القول: إن هذه المادة في صياغتها وشمولها جيدة جدًّا، إلا أن المواد 10 و11 تعطي للدولة رقابة وتحكم بكل وسائل التعبير تحت دعوى حماية أخلاق المجتمع أو تقاليد الأسرة المصرية، وهي مفاهيم مطاطة، ومن الممكن استخدامها للتضييق على الحرية والإبداع وتفريغها من مضمونها.
وحتى الآن تبدو مقاومة المجتمع للتضييق على الحريات قوية، ولكن السؤال المهم هو: إلى أي مدى يستطيع المجتمع التصدي لذلك؟ ويعتقد الباحث أن هناك محددين رئيسيين لمستقبل حرية الإبداع في مصر، هما:
أولًا: التطور السياسي:
ترتبط الديمقراطية بشكل وثيق بحرية الإبداع، وتبدو العلاقة بينهما تبادلية، فتطور النظام السياسي، وقبول المجتمع للقيم الديمقراطية وممارسته لها وتأثره بها، يخلق مناخًا آمنًا ومستقرًّا لازدهار حرية الإبداع، كما أن حرية التعبير هي الضامن الحقيقي لاستمرار التجربة الديمقراطية، وتصحيح مسارها، وتجذيرها في وعي الشعوب؛ واعتمادًا على ما سبق، يعتقد الباحث أن مستقبل حرية الإبداع سيكون مرهونًا بمدى التزام النظام السياسي الجديد بالقيم الديمقراطية (وهو ما يبدو الآن محل شك كبير).
ثانيًا: تطور الفكر الديني:
بصعود التيار الديني سياسيًّا، فرضت القيم والتفسيرات الدينية نفسها كمحدد ورقيب على حرية الإبداع، وأصبحت التيارات الدينية التي وصلت للسلطة، تتحدث باسم الشعب وباسم الدين معًا، وفي حالة استمرار هذا لن نصل لديمقراطية ولن نصل لحرية، وبالتأكيد سنعود للخلف عشرات السنين؛ ولكن هناك رؤية أخرى ترى أن التجربة الديمقراطية قد تغير من القيم الحاكمة للتيار الديني وتنحو به باتجاه فهم منفتح للدين، يقبل الآخر المخالف في الرأي ولا يكفّره، يفهم الدين بطريقة أقل طائفية وأكثر تسامحًا، وفي هذه الحالة قد تصبح القيم الإسلامية جزءًا من ضمانات الحرية التي نادى وينادي بها المصريون منذ وقت طويل.
حرية الإبداع وسيناريوهات المستقبل
في ظل الواقع السياسي الذي تعيشه مصر الآن تنحصر سيناريوهات مستقبل حرية الإبداع في سيناريوهين، كما يلي:
أولًا: ازدهار حرية الإبداع، وسيحدث هذا في حالة استكمال مسيرة التحول الديمقراطي في مصر واستمرار تداول السلطة، وهو ما سينتج عنه ترسيخ القيم الديمقراطية، وتحولها من مجرد شعارات تنادي بها قوى سياسية، إلى ممارسات متجذرة على أرض الواقع، وهو ما سيخلق مناخًا آمنًا لازدهار حرية الإبداع وسينتج عن هذا تعاظم قوة مصر الناعمة وعودتها لسابق عهدها، وتحصين المجتمع ضد كل دعاوى الرجعية والإرهاب الفكري.
ثانيًا: تقلص المساحة الممنوحة لحرية الإبداع، وعودة الأمور لسابق عهدها، سيحدث هذا في حالة الارتداد عن المسار الديمقراطي، والعودة للمارسات السابقة من قمع كل ذي رأي تحت دعوى حماية المجتمع أو الدين أو الدولة، ولن يحدث هذا دون مقاومة من المجتمع الذي يبدو الآن قادرًا على حماية أحلامه، ولكن في حالة كسر هذه المقاومة الجمعية (وستكون كلفة هذا باهظة) ستظل قطاعات من المجتمع تحاول الوصول إلى ما تريده بالتحايل على شتى أنواع الرقابة، وسيستمر الصراع.. وقد يصل إلى مستويات جديدة تعيدنا عشرات السنوات إلى الوراء.
( [1] ) المادة 14 دستور 1923.
( [2] ) مادة 12 دستور 1923.
( [3] ) لمزيد من التفاصيل راجع تقرير الشبكة العربية لمعلومت حقوق الإنسان الصادر في 4 أكتوبر 2012 بعنوان « لا نعاديها ولا نكترث بها: حرية التعبير في ظل الرئيس المدني المنتخب، بعد ثلاثة أشهر » .