يمكن القول إن الانتقال من مجتمع المعلومات العالمى بسماته التى سبق أن أشرنا إليها إلى مجتمع المعرفة يعد نقلة كيفية فى مجال التطور الحضارى الإنسانى. وليس معنى ذلك أن المجتمعات الإنسانية السابقة أو الحديثة أو المعاصرة لم تكن مجتمعات معرفة، ولكن الفرق يبدو فى نوع المعرفة التى تسود المجتمع، وخصوصا فى ظل انتشار تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الجديدة، وبروز الإنترنت كشبكة عامة فتحت فرصا جديدة لتوسعة الفضاء العام للمعرفة.
والسؤال المطروح الآن هل سيؤدى انتشار تكنولوجيا المعلومات وبروز الإنترنت كشبكة عامة إلى فتح فرص جديدة لتوسعة الفضاء العام للمعرفة، وهل سنملك وسائل تسمح لجميع الناس بالنفاذ بشكل متساو وشامل إلى المعرفة؟
الواقع أن تحقيق هذا الهدف هو أساس أى مجتمعات حقيقية للمعرفة لتكون مصدراً لتنمية بشرية مستدامة.
ويمكن القول إن مجتمع المعرفة لا يمكن أن ينهض إلا على أساس «اقتصاد المعرفة». وقد استعمل مفهوم مجتمع المعرفة لأول مرة عام 1969 بعد أن ابتدعه فيلسوف الإدارة الشهيرة بيتر دراكر peter Druceker الذى قرر أنه لا يمكن تأسيس مجتمع المعرفة إلا إذا تبلور اقتصاد للمعرفة Knowledge Economy.
واقتصاد المعرفة يعنى استخدام المعرفة لخلق قيم مادية وغير مادية. والتكنولوجيا -وخصوصاً تكنولوجيا المعرفة والذكاء الاصطناعى -تساعد على تحويل جزء من المعرفة إلى الآلات. وهذه يمكن- من خلال عملية صنع القرار فى ميادين مختلفة- أن تنشئ قيماً اقتصادية,.
ومفهوم اقتصاد المعرفة الذى صاغه بيتر دراكر فى كتابه عصر الانقطاعات The age Of Discontinuites يرجعه هو نفسه إلى الاقتصادى فريتز ماشلب Fritz Machlup بل يعود به إلى فكرة الإدارة العلمية التى صاغ مفاهيمها فريدريك تايلور.
وإذا أردنا أن نفصل فى أبعاد مفهوم اقتصاد المعرفة لقلنا أنه يعنى أن المعرفة والتعليم- والذى غالباً ما يشار إليه بالرأسمال الإنسانى- يتمثل فى منتجات تعليمية أو فكرية تجديدية يمكن تصديرها مقابل عوائد كبيرة، ومن ناحية أخرى فالسمة.
الرئيسية لاقتصاد المعرفة هو اعتماده الكبير على الإمكانات الفكرية أكثر من اعتماده على المدخلات الفيزيقية أو الموارد الطبيعية.
وقد قام «دراكر» بتأصيل مفهوم اقتصاد المعرفة فى كتابه The effective Executive الصادر عام 1966، الذى أقام فيه معرفة أساسية بين العامل اليدوى Manual Worker والعامل المعرفى Knowledge، على أساس أن الأول يعمل بيده لإنتاج السلع والخدمات فى حين أن الثانى يعمل بعقله وليس بيده وينتج أفكاراً ومعرفة ومعلومات.
ولابد من توضيح الفرق الجوهرى بين مجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة، وذلك لأن المعلومات لا تكون بذاتها معرفة، والمعرفة تحتاج بصورة عامة إلى عقل نقدى يفاضل بين المعلومات ويميز بين الزائف منها والصحيح، ويستطيع أن يفاضل بين الآراء المختلفة ليفرز الذاتى من الموضوعى.
وهناك اتفاق بين الباحثين على أن هناك عديداً من العوامل التى أدت إلى تغيير قواعد ممارسة الأنشطة الاقتصادية لا تؤثر تأثيراً كبيراً على المنافسة بين المشروعات وهى:
1- العولمة التى أدت إلى أن الأسواق والمنتجات أصبحت معولمة.
2- تعميق تكنولوجيا المعلومات.
3- الميديا الجديدة التى أدت إلى زيادة المنتجات وتوزيع المعارف والتى أدت فى النهاية إلى نشوء ما يطلق عليه الذكاء الجماعى Collective intelligence.
4- التشبيك الإلكترونى وزيادة القدرة على الاتصال. وفى ضوء هذه التطورات فإن السلع والخدمات يمكن أن تنمى وتشترى وتتاح وفى أغلب الحالات تسلم عبر الشبكات الإلكترونية.
وهناك سمات متعددة لاقتصاد المعرفة لا يتسع المجال لاستعراضها.
ويلتفت التقرير الأول لليونسكو عن مجتمع المعلومات إلى مسألة فى غاية الأهمية وهى أخطار التسليع المفرط للمعارف.
وهو يقرر أن المعرفة أضحت مسلعة «بشكل معلومات قابلة للتبادل والترميز».
وهناك انتقادات لهذا الاتجاه، لأن المعرفة فى هذه الصورة يمكن التلاعب بها فى قواعد البيانات ومحركات البحث وإدماجها فى الإنتاج كأحد ترتيبات العلم القائم على التكنولوجيا، وتحويلها إلى شرط للتنمية وإلى رهان للسلطة أو إلى أداة للمراقبة قد تنتهى إلى هدم نفسها بنفسها من حيث هى معرفة.
وتبدو الخطورة كما يقرر تقرير اليونسكو- فى أن الاستحواذ على المعارف بعد التسليع المفرط لها فى المجتمع العالمى للمعلومات قد يشكل تهديداً جدياً لتنوع الثقافات المعرفية.
ومن هنا يصح التساؤل عن المكان الذى ستمثله بعض المهارات والمعارف المحلية أو الأصلية فى اقتصاد تعطى فيه الأولوية للمعارف العلمية أو التقنية؟
ألا تواجه هذه المعارف المحلية »الأصيلة التى يقلل غالباً من شأنها بالمقارنة مع المعارف التقنية العلمية الزوال بكل بساطة، فى الوقت الذى تمثل فيه هذه المعارف ميراثاً غنياً لا يقدر بثمن وتشكل وسيلة للتنمية المستدامة؟
والواقع أن مجتمعات المعرفة تثير عديداً من الموضوعات الأساسية التى لا يسعنا استعراضها فى هذه الورقة الوجيزة.
ولو رجعنا إلى تقرير اليونسكو الأول فيمكن القول إن أبرز مفردات مجتمع المعرفة هى:
1- أن مجتمعات المعرفة مصدر للتنمية وأن حرية التعبير هى حجر الأساس.
2- تأثير تكنولوجيات المعلومات والاتصال الجديدة على المعرفة الشبكية.
3- التعليم هو القيمة الأساسية فى مجتمعات المعرفة، بالإضافة إلى أهمية توفير المعرفة.
4- التعليم الأساسى للجميع والتعليم للجميع مدى الحياة من بين الأسس الرئيسية لمجتمع المعرفة.
5- تطوير التعليم العالى مسألة أساسية فى بلورة مجتمعات المعرفة.
6- عقد الصلات العضوية بين البحث العلمى والتنمية واستكشاف حدود العلم الجديدة.
7- نشر الثقافة العلمية بين الجماهير.
8- أهمية الالتفات إلى موضوع المخاطر والأمن البشرى فى مجتمعات المعرفة، لأن المعرفة قد تكون مصدراً لأفكار جديدة (تراجع هنا نظرية عالم الاجتماع الألمانى «إيرليس بك» فى كتابه «مجتمع المخاطر».
9- ضرورة الحفاظ على المعارف المحلية والأصيلة والحرص على الحفاظ على التنوع اللغوى.
10- وضع سياسات ثقافية لإتاحة المعرفة للجميع.
ما سبق مجرد رءوس أقلام لأهم الموضوعات التى تثيرها عملية الانتقال من مجتمع المعلومات العالمى إلى مجتمع المعرفة وهى لا تغنى عن ضرورة مناقشتها بصورة تفصيلية.