اعترف بأن المقالات المتتابعة التي نشرتها في الأسابيع الماضية عن مشكلات البحث العلمي في الوطن والتي نبعت أفكارها الأساسية من المحاضرة
التي ألقيتها في جامعة زويل كانت بالنسبة لي أشبه باستراحة المحارب من مناقشة الواقع الكئيب الذي نعيشه هذه الأيام, والذي يتمثل في المواجهات الدامية والتفجيرات الإرهابية التي تقوم بها جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الجهادية الأخري.
وهذه المواجهات والتي تتمثل في المظاهرات الفوضوية التي يزعم أعضاء الجماعة أنها سلمية تهدف في المقام الأول إلي ترويع أبناء شعبنا وتعطيل خريطة الطريق التي أنجزت مهمة صياغة الدستور والذي سيتم الاستفتاء عليه يومي15,14 يناير القادمين.
وإذا كنا نستطيع أن نفهم الصدمة المروعة التي أصابت قادة جماعة الإخوان المسلمين بعد أن أسقطت جماهير الشعب الحاشدة نظام الحكم الإخواني المستبد والفاسد, إلا أنه من الصعوبة بمكان تفهم منطق هؤلاء القادة المزعومين في شن حرب ضارية ليست ضد السلطة السياسية الجديدة ولكن ضد الشعب نفسه!.
ومن أعجب الأمور أن نفرا من الكتاب الإخوانيين يكتبون بلا هوادة عن استخدام قوات الأمن للعنف المفرط ضد المظاهرات الفوضوية الإخوانية, ولكنهم نفاقا وخداعا وجبنا لا يتطرقون بكلمة إلي الجرائم التي يرتكبها أعضاء جماعات الإخوان المسلمين الذين انطلقوا للاعتداء علي مباني الجامعات متعمدين تخريب الدراسة أو وقفها. ومما لا شك فيه أن مؤرخ المستقبل سوف يجد مشكلة كبري في التأريخ لوقائع حكم الإخوان المسلمين بعد أن سيطروا علي المجالس النيابية الباطلة, ونجحوا نتيجة تخاذل القوي الليبرالية في إنجاح د. محمد مرسي ليصبح رئيسا للجمهورية, لينحرف بالسلطة وينصب نفسه ديكتاتورا مطلق السراح, بعد إصداره للإعلان الدستوري الشهير الذي نسف فيه شرعيته كرئيس, وشرعية حزب الحرية و العدالة, بل وشرعية جماعة الإخوان المسلمين.
ولا نبالغ لو قلنا إن هذا الإعلان الدستوري الباطل مثل نقطة الانقطاع التاريخية في مجال حكم الإخوان, لأنه كان بداية المعارضة المطلقة لكافة القوي السياسية, وتبلور السخط الشعبي الذي أنتج حركة تمرد, والتي نجحت في30 يونيو في حشد الجماهير الغاضبة التي أيدتها بمبادرة جسورة القوات المسلحة بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي. ويبقي السؤال كيف سيقيم مؤرخ المستقبل هذه الفترة المظلمة في التاريخ المصري؟
وجوابنا علي ذلك أنه لابد له أن يعود إلي الوراء, ليراجع الكتابات والأبحاث التي تعرضت لنشأة وتطور فكر الجماعات الإسلامية السياسية وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين, وقد أصدرت هذه الدراسات مراكز أبحاث رصينة وباحثون يتسمون بالموضوعية, من بين هذه المراكز الهامة مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الذي أصدر كتابا بالغ الأهمية بعنوان دليل الحركات الإسلامية في العالم رأس تحريره ضياء رشوان الخبير المعروف في الحركات الإسلامية, وقام بتنسيقه محمد فايز فرحات وصدر عام.2006 وقد كنت منذ التسعينيات من الباحثين الذين اهتموا بالدراسة النقدية لحركات الإسلام السياسي, ويشهد علي ذلك الجدل العلني الذي دار بيني وبين الشيخ يوسف القرضاوي علي صفحات الأهرام والذي استمر لعدة أسابيع منذ أول أغسطس1994 واستمر حتي20 أغسطس1994, وقد ضمنت هذا الحوار الهام كتابي قضايا المعاصرة والخلافة: حوار علماني إسلامي الذي نشرته دار ميريت عام1999.
ويبقي السؤال الجوهري ما هي النتائج الرئيسية التي خرجت بها مراكز الأبحاث والباحثون المتعددون من دراسة حركات الإسلام السياسي؟
توصلت في مقال لي بعنوان تعددية الجماعات الإسلامية ووحدة الهدف إلي أن الخطاب الإسلامي المتطرف الذي تروج له هذه الجماعات له سمات متشابهة في كل العالم العربي. وهو يبدأ عادة بنقد الوضع الراهن في المجتمعات العربية علي أساس أنه مضاد لتعاليم الإسلام. وقد تتفاوت هذه الخطابات في درجة تطرفها, فهي أحيانا تحاول النفاذ للوعي العام عن طريق استنكار الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية الراهنة, وتدعو من بعد إلي تطبيق شعار الإسلام هو الحل أي هو البديل عن كل الممارسات السائدة مهما كانت دستورية وديمقراطية وممثلة لصالح الشعوب, غير أن هناك خطابات إسلامية أخري متطرفة لا تتواني عن تكفير المجتمع والدولة. ويمكن القول إن ما يجمع بين كل الحركات الإسلامية السياسية يتمثل في الرفض القاطع لنموذج المجتمع السائد في البلاد التي قامت فيها هذه الحركات كالمجتمع المصري والمجتمع المغربي والمجتمع الجزائري, واتهام هذه المجتمعات بأنها كافرة أو جاهلية, وإن لم تستخدم كل الجماعات هذه الأوصاف علي وجه التحديد.
وبناء علي هذا الرفض والاتهام فإن خطاب هذه الجماعات يدعو إلي الانقلاب علي النظام السياسي القائم, كما حاولت جماعة الإخوان المسلمين أن تفعل ضد النظام السياسي الليبرالي الذي كان سائدا في مصر منذ صدور دستور1923 حتي ثورة يوليو1952 وذلك من خلال التنظيم السري للجماعة والذي قام بسلسلة من الاغتيالات لبعض الزعماء السياسيين مثل النقراشي باشا رئيس الوزراء, ولبعض القضاة الذين حاكموا أعضاء من الجماعة اتهموا بجرائم إرهابية مثل المستشار الخازندار, وواصلت جماعة الإخوان المسلمين مسيرتها الانقلابية ضد حكم ثورة يوليو1952 إذ حاول بعض أعضائها اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر عام1954 في ميدان المنشية بالإسكندرية, وبعد ذلك حاول سيد قطب عن طريق تنظيم سري القيام بانقلاب ضد الدولة في الستينيات وقبض عليه وعلي شركائه وصدر الحكم بإعدامه. ويمكن القول إنه في عصر الرئيس السادات تمت أول محاولة من النظام السياسي المصري لإدماج الإخوان المسلمين في الحياة السياسية المصرية, لأنه أفرج عن المعتقلين منهم ودعا القيادات الإخوانية التي هاجرت للخارج للعودة إلي أرض الوطن, وسمح لهم بإصدار مجلة الدعوة من جديد, غير أنهم سرعان ما انقلبوا عليه بعد اتفاقية كامب دافيد.
أما الرئيس الأسبق مبارك فقد أفسح لهم المجال للعمل الاجتماعي وفي أخريات أيامه أتاح لهم دخول مجلس الشعب عام2005 وكان لهم فيه أكثر من ثمانين عضوا, إلا أنه عاد وانقلب عليهم في آخر انتخابات برلمانية التي شابها التزوير. واستطاعت جماعة الإخوان المسلمين بعد ثورة25 يناير أن تقفز علي قطار الثورة وتسرقها من الشعب المصري الذي قام بها من خلال إجراءات الديمقراطية الشكلية, إلا أن الشعب الذي انتخابهم لأسباب شتي هو نفس الشعب الذي أسقطهم في موجة ثورية تاريخية تمت في30 يونيو.2013.
نقلا عن الأهرام