فاجأنى صديق عزيز أثق فى ولائه وحماسه بل وانحيازه المطلق للرئيس عبد الفتاح السيسى وللنظام الجديد الذى تأسس بعد ثورة 30 يونيو 2013 بسؤال اعتبرته شديد الغرابة وربما يكون اقرب إلى الشطط العقلى من رجل أثق تماماً فى قدراته العقلية.
كان السؤال يقول: هل ترى رابطاً ما بين كل ما حدث من تسخين وترويع إعلامى «مصطنع» من الأحداث التى جرى الترويج لاحتمال حدوثها يوم 28 نوفمبر الفائت الذى كانت قد أعلنته «الجماعة السلفية» وأعوانها من الإخوان، وجماعة «حازمون» يوماً للتظاهر برفع المصاحف بهدف تفجير «ثورة شبابية إسلامية» وبين الأحكام التى صدرت فى اليوم التالى مباشرة «29 نوفمبر 2014» وقضت ببراءة الرئيس المخلوع ونجليه وأركان نظامه الأمني؟
اعترف بداية أن السؤال كان مباغتاً ومربكاً، فرددته على صاحبه قائلاً: «أى رابط من أى نوع وأى علاقة تقصدها؟ هل تقصد أن أحكام البراءة التى صدرت كانت أحكاماً سياسية ومبيتة؟» فكانت إجابته: «لا أقصد هذا فقط، ولكن أقصد أيضاً أن النظام كان يريد قياس مدى استجابة الشعب لعدم النزول فى هذا اليوم للتحسب لمخاطر نزول الشعب رفضاً لأحكام البراءة المعلومة مسبقاً»، وزاد الرجل فى توضيح ما يريده بالقول: «إن استجابة الشعب لنداءات ومطالب «الإعلام المسيَّس» بعدم النزول جاءت مطمئنة للمسئولين بأن الشعب أضحى عازفاً عن التظاهر بل وكارهاً له، وأن أحكام البراءة ستمر دون منغصات، ولكن الشعب خيَّب توقعاتهم».
هذه «التخريفات» أو «الشطحات» فى التحليل والاستنتاج بقدر ما هى صادمة بقدر ما هى مهمة خصوصاً أنها صادرة عن رجل كنت أثق فى رجاحة عقله وفى ولائه وانحيازه للنظام الجديد، فهى تعد بمثابة إنذار أو ضوء أحمر أو جرس يقرع ويعلن أن تحولات أخذت تحدث فى مواقف قطاعات شعبية موالية للرئيس وللنظام من جراء صدمتهم هم أيضاً بأن النظام الجديد لم يضع على رأس أولوياته معالجة الأسباب الحقيقية التى فجرت الثورة يوم 25 يناير وذلك بمحاربة الفساد والاستبداد الذى فرض نظام احتكار السلطة والثروة فى شخص الرئيس ونجليه وأركان نظامه (وبالذات المؤسسات الأمنية) وطبقة رجال الأعمال التى راكمت ثرواتها مستفيدة من دعمها للنظام ومن دعم النظام لها.
كان الشعب ينتظر أن يبدأ النظام الجديد بالتأسيس لنفسه على أسس خالية من كل شبهة فساد أو استبداد عن طريق تقديم الرئيس المخلوع وأركان نظامه لمحاكمات عادلة فى كل جرائم الفساد والاستبداد بكافة أنواعها سواء كانت جرائم أمنية، أم سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية، وأن يقصى كل من كان له علاقة بالنظام السابق ممن عرفهم الشعب بأنهم كانوا من رعاة الفساد والاستبداد، الداعمين له والراعين له والمروجين والمدافعين عنه وعن سياساته وممارساته، وأن يقدم للشعب نخباً جديدة نظيفة غير ملوثة العقل واليد والسمعة وذات الولاء والإخلاص للوطن دون غيره والانحياز لبناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة، ومن ذوى الكفاءة والاقتدار المهنى من كافة التخصصات.
كان الشعب يأمل أن يكون الانحياز له ولمطالبه فى حياة مستقرة تكفل له العدل بكافة أنواعه: الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والقانونى دون تمييز إلا على أساس الكفاءة، وأن تضمن له حرياته بكافة أنواعها، لكن بطء الإنجاز فى هذا الاتجاه أخذ يؤثر تدريجياً على تفاؤل البعض بالنظام الجديد كما أخذت تدفعهم نحو اللامبالاة بالشأن العام مجدداً، والانصراف عن المشاركة السياسية بعد أن كانوا يتفاخرون وعلى مدى ثلاثة أعوام أنهم من اسقطوا نظامين وسجنوا رئيسين، وفجروا ثورتين. وجاءت أحكام البراءة للرئيس المخلوع ونجليه وأركان نظامه الأمنى لتفاقم إحباطهم من غياب الحلول لمشاكل البطالة المزمنة، وارتفاع تكاليف المعيشة والمغالاة فى رفع الأسعار دون ضوابط رادعة تتضمن مراجعة لسياسات نظام السوق الرأسمالية التى جعلت الشعب ضحية لجشع حفنة محدودة من كبار المستوردين والتجار.
مشكلة أو خطورة هذه التحولات فى مشاعر الناس حتى ولو كانت محدودة أنها تأتى فى وقت يتعرض فيه الشعب لحملات استقطاب مزدوجة من قوتين منافستين لنظام ثورة 30 يونيو.
القوة الأولى هى جماعة الإخوان وفصائل «السلفية الجهادية» وعلى رأسها تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش). فالإخوان دخلوا فى حرب ضد الدولة وليس ضد الجيش والشرطة وحدهما، وأسسوا جماعات كثيرة هدفها إسقاط ما يسمونه بـ «انقلاب 30 يونيو» كان من بينها «جماعة ضنك» التى تهدف إلى تكدير حياة المصريين ومعاقبتهم على انحيازهم للنظام الجديد، أملاً فى زعزعة الثقة بين الشعب والنظام، والتشكيك فى جدية ولاء وانتماء النظام لثورة 25 يناير 2011 والزعم بأنه «ابن شرعى لنظام مبارك» برجاله وسياساته وانحيازاته. وهم يحاولون شق الوحدة الوطنية وفرض استقطاب سياسى بين المصريين، استقطاب بين من يؤيدون الإخوان ويطالبون بالانتصار لهم وعودتهم، وبين من يؤيدون النظام الجديد، على أمل الدفع بالبلاد إلى شفى «الحرب الأهلية»، لكن جدية النظام فى مواجهتهم وتمسك الشعب بثورته مازال عقبة كئوة أمام هذه الطموحات الإخوانية.
أما تنظيم «داعش» و«السلفية الجهادية» فهم يراهنون على دفع الإخوان للانحياز إلى مخططهم لإقامة دولة الخلافة الإسلامية، وإسقاط ما يسمونه بـ «دولة الكفر» بالدعوة إلى التوقف عن التظاهرات «شبه السلمية» واللجوء إلى «الحرب المسلحة» ضد الجيش المصرى وقوات الأمن بهدف «إسقاط النظام»، وإعلان مصر «ولاية إسلامية» ورهانهم الأساسى يتركز على تيئيس الشعب من النظام الجديد وضرب وتهديد الأمن والاستقرار.
أما القوة الثانية فهى جماعة رجال مبارك المتركزة فى كبار رجال الأعمال الفاسدين وأدواتهم الإعلامية المقروءة والمرئية، والبيروقراطية الفاسدة فى أجهزة الدولة والوزارات والمحافظات والمحليات التى لم تعد تطيق العيش فى نظام غير فاسد وغير مستبد. هؤلاء يريدون احتواء النظام الجديد والسيطرة عليه، وهم من أسعدتهم أحكام البراءة، ومن يواصلون الدعوة لمحاكمة ثورة 25 يناير باعتبارها انقلاباً على الشرعية وعمالة لقوى خارجية، هؤلاء أيضاً يراهنون على كسب ولاءات ودعم قطاعات شعبية واسعة، ويضغطون على النظام عن طريق رجال أعمالهم الذين لم يقدروا كل الفرص التى منحت لهم من الرئيس والنظام الجديد لمراجعة سياساتهم وانحرافاتهم وفسادهم، والانخراط فى نظام جديد نظيف يهدف إلى محاربة الفساد والاستغلال.
هل يعقل أن يقف النظام مكتوف اليدين أمام هذه المنافسة وأمام هذه التحديات؟
الأسئلة التى فجرتها براءات محاكمات مبارك ونجليه وأركان نظامه الأمنى كثيرة، لكن أخطرها يتعلق بموقف النظام من الدفاع عن نفسه وكسب الولاء الشعبى والحفاظ على هذا الولاء لأنه قاعدة الشرعية للنظام والطريق المأمون إلى هذا كله هو محاربة إرهاب التكفيريين أمنياً وسياسياً ومحاربة إرهاب آخر لا يقل خطورة هو إرهاب الفاسدين المستبدين الذين يريدون تجديد شرعية مبارك ونظامه بعد براءاته، ولن يتحقق ذلك إلا بسرعة محاكمة مبارك فى جرائمه على مدى ثلاثة عقود وهى جرائم لها ملفاتها الموثقة فى أدراج السيد النائب العام منذ أكثر من عامين دون أن تجد الإرادة السياسية لتحقيقها.