شهادة آن باترسون السفيرة الأمريكية السابقة فى القاهرة مساعد وزير الخارجية الأمريكى لشئون الشرق الأدنى أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الأمريكى حول تقييمها لزيارة المشير عبد الفتاح السيسى لروسيا والنتائج المحتملة لهذه الزيارة وبالذات على العلاقات المصرية الأمريكية وفرص روسيا فى مصر
تكشف الكثير من خفايا العلاقات بين القاهرة وواشنطن وبالذات من المنظور الأمريكي، لكنها ـ وهذا هو الأهم ـ توضح كيف يفكر العقل الإستراتيجى الأمريكى فى إدارة ما كان يسمى بـ التحالف الإستراتيجى أو الحوار الإستراتيجى مع مصر ومستقبل هذا التحالف فى ظل المتغيرات المصرية والإقليمية الشرق أوسطية الجديدة وطموحات روسيا فى العودة مجدداً إلى مصر.
فى هذه الشهادة قالت باترسون: من وجهة نظري، ما يقال عن، أو ما يسمى بنجاحات روسيا داخل مصر لهو أمر مبالغ فيه للغاية. وأنا أعنى أن لدينا علاقات قوية جداًّ وطويلة الأمد مع مصر على الصعيد العسكري. هناك بعض الأسلحة الروسية المتبقية، وكانت هناك زيارات من جانب مسئولين روس (ربما تقصد الزيارة الثنائية لوزيرى الخارجية سيرجى لافروف والدفاع سيرجى شويجو فى 14/11/2013)، ولكن، مرة أخري، لا أعتقد أنها (روسيا) تستطيع أن تتنافس مع علاقاتنا مع العسكرية المصرية.
ما أرادت آن باترسون أن تقوله هو أن الولايات المتحدة، غير مستعدة للسماح بحدوث تحول إستراتيجى فى علاقة مصر بواشنطن، سواء فى اتجاه روسيا أو فى اتجاه أى طرف دولى آخر.
المعنى الذى أريد أن أقوله خطير، وهو أن التوتر أو الخلاف الراهن فى العلاقات بين القاهرة وواشنطن بسبب الانحيازات الأمريكية لتنظيم الإخوان والإصرار الأمريكى على فرض الإخوان طرفاً مشاركاً فى السياسة والحكم فى مصر الآن قبل الغد، تراه الولايات المتحدة توتراً أو خلافاً طارئاً، وأنها سوف تقاتل من أجل إعادة الأمور فى مصر على النحو الذى يرضى الغرور ويُمكِّنها من المحافظة على مصالحها وتحالفها الإستراتيجى مع مصر على نحو ما كان فى عهد مبارك أو على الأقل فى عهد حكم الإخوان، وأنه إذا كانت الخلافات الراهنة تفرض على أحد الطرفين أن يقدم تنازلات أو أن يتكيف مع المتغيرات الجديدة فإن الطرف المصرى هو الذى عليه أن يقدم التنازلات وأن يتكيف مع هذه المتغيرات بحيث تعود أو تبقى حليفاً إستراتيجياًّ للولايات المتحدة على النحو الذى سبق أن حدده الجنرال أنطونى زينى القائد الأسبق للمنطقة المركزية الأمريكية.
الجنرال زينى تحدث فى ندوة بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشطن (مايو 2013) وقال ما نصه: مساعدتنا العسكرية لمصر ليست هدية، فهى تحقق لنا فوائد جمة، لا تقتصر فقط على الحفاظ على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. فبعد كامب ديفيد قدم الجيش المصرى تعهداً بالتحول من نموذج التدريب والتجهيز الروسى للنموذج الأمريكى، وكان ذلك قراراً كبيراً لأنه انتقال كبير فى المفاهيم والعقيدة العسكرية والمعدات.
فى عملياتنا العسكرية فى المنطقة، لا نستطيع بدون مصر أن نصل إلى أهم المواقع الإستراتيجية بدون قناة السويس وحقوق الطيران فوق مصر والتسهيلات بقاعدة غرب القاهرة وغيرها، لا يمكننا تحريك أو دعم قوات الانتشار السريع وقوات الطوارئ، لقد وفرت مناورات النجم الساطع فى مصر لنا وللأوروبيين مساحات واسعة للتدريب، كان من الصعب الحصول عليها فى مناطق أخري..
هكذا ينظر الأمريكيون لمصر، وهم على يقين بأن مصر التى قبلت بمثل تلك العلاقة لا يمكن أن تكون أبداً دولة مستقلة الإرادة، بل هى الدولة التابعة. ولكى تكون مصر دولة تابعة كان لابد عليهم أن يفرضوا عليها أن تقبل بكل الشروط الأمريكية التى تعتبر المرتكزات الأساسية للتبعية كى تحصل على المقابل المطلوب. كان هذا المقابل مع بداية عهد الخضوع المصرى لتلك التبعية الأمريكية ابتداءً من عام 1976 هو الرخاء المزعوم من خلال المعونة الأمريكية.
كان الشرط الأمريكى الأول لحصول مصر على ذلك الرخاء هو السلام مع إسرائيل أى الانخراط فى معادلة الرخاء مقابل السلام. والسلام الذى أراده الأمريكيون هو السلام الإسرائيلى بالشروط الإسرائيلية بتحويل مصر إلى دولة رخوة غير قادرة على محاربة إسرائيل مرة أخري، وأن تنعزل كلية عن واقعها العربي، وأن تقوم بتصفية وبيع القطاع العام لكسر ظهر الاقتصاد المصرى ولحرمان الجيش من الظهير الوطنى القوى القادر على تمكينه من خوض أى حرب فى الوقت الذى يراه ضرورياً لحماية أمن مصر. وفضلاً عن ذلك اعتمد الأمريكيون على ثلاثة مرتكزات مجتمعية مصرية لتأمين الانغماس المصرى فى التبعية لواشنطن حددها آفى ديختر رئيس الأمن الداخلى الإسرائيلى (الشاباك) الأسبق وهي: الطبقة الحاكمة، وطبقة رجال الأعمال (الذين تمكنوا من نهب القطاع العام والاستحواذ على الجزء الأكبر من المعونة الأمريكية)، ثم النخب الإعلامية والسياسية، وهم من سماهم فى محاضرة مهمة له بمناسبة تقاعده الرسمى عام 2008 بـ : شركاء إسرائيل من رجال الأعمال وأصدقاء إسرائيل فى الإعلام المصري.
لكن قبل هذا كله، كان لابد من طرد الاتحاد السوفيتى من مصر، وأن تتحول مصر من الاعتماد على التسليح السوفيتى إلى الاعتماد على التسليح الأمريكي، لأن هذا التحول يوفر ضمانتين أو مصلحتين شديدتى الأهمية لواشنطن، الأولى هي: تبعية عسكرية مصرية لأمريكا لا فكاك منها تجعل القرار العسكرى المصرى رهناً للقرار الأمريكي، والثانية التحكم فى القدرات العسكرية للجيش المصرى وضمان عدم قدرته على تحقيق انتصار فى أى حرب يتورط فيها مع إسرائيل.
هكذا تمكن الأمريكيون من مصر، وهكذا يراهنون على بقاء مصر تابعة لهم، ولا يكترثون كثيراً بأى مخاطر يمكن أن تترتب على زيارة أو زيارات لكبار المسئولين العسكريين والسياسيين المصريين لموسكو، ولا يرون فرصاً لروسيا فى مصر.. لكن يبقى السؤال: هل مصر قادرة على تخييب كل ظنون ورهانات أمريكا وبالذات ظنون ورهانات آن باترسون ومن هم على شاكلتها؟.
هل أسقطت مصر عن كاهلها كل قيود تبعيتها للأمريكيين واستردت حرية قرارها الوطنى بعد إسقاط نظامى مبارك والإخوان؟.
مثل هذه الأسئلة والإجابات هى ما يجب أن يشغلنا الآن ونحن أمام استحقاقات وطنية كبرى لن نستطيع أن نفى بها إذا لم يكن الاستقلال الوطنى هو منهجنا فى إدارة هذه الاستحقاقات وفى مقدمتها إدارة سياستنا الخارجية، ومراجعة تحالفاتنا الإقليمية والدولية على قاعدة توازن المصالح مع الجميع وليس التبعية لأحد، ولكن لهذا كله شروطه ومتطلباته وفى مقدمتها تصفية كل مرتكزات التبعية لأمريكا وعلى الأخص فى الطبقة الحاكمة وفى طبقة رجال الأعمال وفى النخب السياسية والإعلامية