هل يمكن القيام بتقييم علمى للثورات المتعددة التى اندلعت من قبل فى مختلف بلاد العالم كالثورة الفرنسية فى فرنسا، والثورة البلشفية فى روسيا، والثورة الصينية، فى الصين وثورة 23 يوليو 1952 فى مصر، وبعدها بعشرات السنين ثورة 25 يناير 2010؟
أم أن التحيز الإيديولوجى المسبق للباحث أو المؤرخ سيجعله يميل إلى العدوان على الحقيقة التاريخية، وينزع إلى التركيز على سلبيات الثورة ويتجاهل إيجابياتها؟
وهل هناك حقا شىء اسمه الحقيقة التاريخية«، أم أن الوصول إليها حتى بالاستناد إلى الحقائق الصحيحة والأدلة الثابتة يعد وهما من الأوهام؟
كل هذه الأسئلة دارت حولها مناقشات خصبة وحامية فى كل فروع العلم الاجتماعى المعاصر، وخصوصاً علم التاريخ الذى عانى معاناة شديدة من تحيز عديد من المؤرخين وافتقادهم إلى الموضوعية.
وهذا المفهوم يدفعنا إلى سؤال جديد ما هى الموضوعية؟ نعلم أن هذه مشكلة فلسفية معقدة، حارت فيها أفهام العلماء الاجتماعيين إلى أن حسمها عالم الاجتماع السويدى الشهير اجونار ميردالب فى كتابه «معضلة أمريكية» التى عالج فيها مشكلة التمييز العنصرى ضد السود فى أمريكا حين قال ببساطة عميقة «الموضوعية هى أن تعلن ذاتيتك منذ البداية»!
بعبارة أخرى عليك كمؤرخ أو كباحث أن تعلن مقدماً -قبل شروعك فى البحث- عقيدتك الإيديولوجية لو كنت ماركسياً أو ليبراليا أو حتى فوضوياً! وحتى لو لم تعلن هذه العقيدة يستطيع الباحث العلمى المدرب من تحليل خطاب الباحث الكشف عن مسلماته الإيديولوجية!
لماذا نسوق هذه التساؤلات؟
الإجابة لأنه نشأ جدل عقيم فى مصر المحروسة منذ فترة حول توصيف ثورة 25 يناير هل هى أولاً هبة جماهيرية -قام بها مجموعة من النشطاء السياسيين عبر تشبيكهم فى الإنترنت- أم هى بحكم التحام الملايين المصريين بها- تحولت إلى ثورة شعبية؟
هذا السؤال قد يكون له طابع أكاديمى ولا بأس من إثارته لنعرف الفروق الدقيقة بين الهبة الجماهيرية التلقائية وبين الثورة المخططة التى تصدر عن رؤية للتغيير الأساسى لبنية المجتمع. ولكن هناك تساؤلات غوغائية -للأسف الشديد- مثل هل ثورة 25 يناير «مؤامرة» أجادت نسج خيوطها بعض الدول الغربية بمساعدة عدد من الناشطين السياسيين المصريين الذين -فى قول- تلقوا تدريبات انقلابية فى خارج البلاد، وفى -قول آخر- تلقوا دعما مادياً مما يجعلهم يصورون- فى هذا الخطاب التآمرى- وكأنهم عملاء؟
ولو تركنا ثورة 25 يناير جانباً، وانتقلنا إلى 30 يونيو فإن السؤال الرئيسى هو هل هى انقلاب عسكرى أم ثورة شعبية؟ وهل هى موجة ثانية لثورة يناير أم هى ثورة مستقلة؟
ويمكن القول إن الردود الأكاديمية على هذه التساؤلات تبدو هينة إذا ما رجعنا إلى المراجع الموثوقة فى العلم الاجتماعى.
وفى ضوئها نقرر بكل وضوح أن ثورة 23 يوليو 1952 كانت فى بدايتها «انقلابا«ً» عسكرياً قام به الضباط الأحرار بقيادة «جمال عبد الناصر»، ثم تحول إلى اثورةب بحكم تبنى الثوار لمشروع العدالة الاجتماعية الذى وضعته القوى الوطنية المصرية فى الفترة من عام 1950 حتى عام 1952، ومن هنا تحولت إلى ثورة شعبية.
من ناحية أخرى فإن 25 يناير بدأت باعتبارها «هبة ثورية» قامت بها مجموعة من النشاطين السياسيين -أياً كانت اتجاهاتهم الإيديولوجية أو علاقتهم بالخارج- ثم تحولت إلى «ثورة شعبية» حقيقية بعد التحام ملايين المصريين بها الذين استطاعوا بعد ثمانية عشر يوماً من تظاهراتهم فى ميدان التحرير إجبار الرئيس السابق على التنحى. وعلى ذلك لا يجوز على وجه الإطلاق الزعم بأن 25 يناير مؤامرة، وإلا فمعنى ذلك ان جموع الشعب التى ثارت على نظام «مبارك» تآمرت على نفسها! وهذه أفكار لا تستحق المناقشة فى الواقع!
ونأتى بعد ذلك إلى 30 يونيو كيف نقيمها تقييماً علمياً؟ نعرف أن هناك خلافات شتى بين موقف الدول الغربية التى زعمت أنها كانت انقلاباً عسكرياً وموقف الشعب المصرى بل الشعب العربى فى عمومه أنها كانت -بالتعبير الذى صغته- «انقلاباً شعبياً» خرج لإسقاط الحكم الديكتاتورى لجماعة الإخوان المسلمين دعمته بجسارة القوات المسلحة المصرية.
وفى تقديرى أن أنصار الثورة المضادة هم الذين يوجهون سهام الاتهام الغادرة لثورة يناير باعتبارها «مؤامرة»، وأن أنصار جماعة الإخوان الإرهابية هم الذين يزعمون أن 30 يونيو كانت انقلاباً عسكرياً!
ولا يمكن لنا ان نخلى مسئولية الإعلام المصرى من إثارة هذه المناقشات العقيمة حول 25 يناير و 30 يونيو، لأن بعض الإعلاميين من ذوى الغرض والذين ـ بعيداً عن الالتزام بالمهنية والحد الأدنى من القيم الأخلاقية -هم الذين يثيرون هذه البلبلة فى صفوف الرأى العام.
ولعل هذه البلبلة بكل سلبياتها هى التى دفعت الرئاسة إلى اقتراح سن تشريع يجرم التوصيفات السلبية لكل من 25 يناير أو 30 يونيو، بحيث يحكم جنائياً على من يرتكب هذه السلوك.
وأنا من منطلق قانونى بحت أقرر بكل وضوح أننى ضد صدور هذا القانون لأن فيه حجراً على النقاش العام، ومصادرة لحرية الرأى، بل إنه وفق تعبير قانونى يمثل فى نظرى انحرافاً تشريعياً.
ولا يجوز لنا أن نوقف المباراة العقيمة بين 25 يناير و 30 يونيو بإصدار تشريع جنائى، بل إن تفنيد الأفكار الخاطئة، وكشف الأغراض الخبيثة التى تحرك بعض الإعلاميين هو الطريق الذى لا طريق غيره لمواجهة هذه الحملات الإعلامية المسعورة.
ولا شك عندى أن الممارسة الإعلامية فى مصر -بكل ما يسودها من غوغائية وامتهان للمهنية وتأثير سلبى لرأس المال المنحرف- هى السلبية الأساسية فى ممارسات النظام السياسى الجديد الذى نشأ بعد 30 يونيو، والذى أبطأ حقاً فى صياغة رؤية استراتيجية لمصر تحدد ملامح المستقبل فى المدى الطويل.