ربما لا تكون المصادفة وحدها هى التى جمعت بين زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى للصين التى تبدأ اليوم بالذكرى الثامنة والخمسين لعيد النصر الذى حققته مصر قيادة وشعباً ضد العدوان الثلاثى (البريطانى الفرنسى الإسرائيلي) عام 1956
والذى كانت الصين وعلاقة مصر بها هى أولى حلقات المواجهة بين مصر وقوى الاستعمار الغربية التى قادت إلى هذا النصر، وهذا ما يجعلنا نتعامل مع زيارة الرئيس السيسى للصين اليوم، وما تعنيه من إعلان واضح وصريح لعزيمة مصر وإصرارها على تحرير إرادتها الوطنية وكسر كل قيود التبعية وعلى تحقيق حلم النهوض المصرى من منظور استراتيجى يتركز حول محور أساسى هو محور صراع الإرادات.
وأستطيع أن أقول إن حال مصر الآن وهى تتحسس ملامح مستقبلها تكاد تكون متطابقة مع حال مصر فى عامى 1954 و1955. ففى عام 1954، وبالتحديد فى 18 يونيو 1954 نجح النظام الثورى الجديد الذى قاده الزعيم جمال عبدالناصر أن يحقق الهدف الذى تفجرت من أجله ثورة 1919. كان الدافع الأساسى لثورة 1919 هو الاستقلال الوطنى وتحرير مصر من الاستعمار البريطانى الذى ابتليت به بعد فشل «الانتفاضة العرابية» التى قادها الزعيم أحمد عرابى اعتراضاً على سياسة الخديو توفيق التى أغرقت مصر فى قيود التبعية البريطانية بسبب تراكم الديون وبيع حصة مصر فى قناة السويس. وكانت بريطانيا قد وعدت مصر بالاستقلال إذا وقفت بجانبها فى الحرب العالمية الأولي. وبعد أن انتهت هذه الحرب ذهب ثلاثة من زعماء مصر (سعد زغلول باشا، وعبد العزيز فهمى باشا، ومصطفى شعراوى باشا) فى 18 نوفمبر 1918 إلى المندوب السامى البريطانى لمطالبة بريطانيا بالوفاء بوعودها ومنح مصر استقلالها، لكن رُفض الطلب المصري، واعتقل الزعيم سعد زغلول وتفجرت الثورة التى كان هدفها استقلال مصر وحريتها.
لم يتحقق هذا الاستقلال، رغم توقيع بريطانيا مع مصر ما عُرف بمعاهدة 1936 التى أعطت مصر استقلالاً شكليا. هذا الاستقلال تحقق بعد عامين من تفجر ثورة 23 يوليو 1952 بتوقيع الزعيم جمال عبد الناصر اتفاقية الجلاء فى 18 يونيو 1954، لكن توقيع هذه الاتفاقية لم يكن نهاية المطاف فى معركة استقلال مصر، لكنه كان بداية لمعارك أشد ضراوة دفاعاً عن استقلال الإرادة الوطنية المصرية وحق مصر فى اختيار مستقبلها بسبب الحرص الأمريكى على ملء فراغ الانسحاب البريطانى من مصر وبالتحديد من قواعدها العسكرية فى منطقة قناة السويس.
فقد أرادت الولايات المتحدة الأمريكية، التى كانت فى ذلك الوقت قوة عالمية صاعدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكانت طامحة فى أن تفرض نفسها قوة عالمية مهيمنة وبديلة للقوى الغربية الاستعمارية السابقة (بريطانيا وفرنسا على وجه التحديد) التى كانت قد خرجت من تلك الحرب مرهقة اقتصادياً وعسكرياً، أن تكون قادرة على مواجهة الاتحاد السوفيتى باعتباره العدو المنافس الجديد الرافض والمناوئ للزعامة الأمريكية. وكانت سياسة «الأحلاف العسكرية» هى أهم أدوات الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى احتواء الاتحاد السوفيتى من خلال ما عُرف بـ «سياسة الدومينو» التى تعنى تأسيس سلسلة من الأحلاف المتداخلة والمتماسكة تحيط بالاتحاد السوفيتى من الغرب إلى الشرق.
وبدأت الضغوط والإغراءات الأمريكية على مصر لدمجها فى سياسة الأحلاف تلك، وإشراكها أيضاً فى تأسيس قيادة عسكرية أمريكية للشرق الأوسط، لكن مصر رفضت أن تتورط فى الحرب الباردة التى تفجرت بين واشنطن وموسكو، واختارت سياسة «الحياد الإيجابي»، وقادت دول وشعوب إسيا وإفريقيا لرفض التورط فى معارك الحرب الباردة والوقوع فى سياسة الأحلاف والانحياز لأى من القطبين المتصارعين الأمريكى والسوفيتي، وكان مؤتمر باندونج (إندونيسيا) سبتمبر 1955 هو ذروة التصدى المصرى لسياسة الأحلاف، والإصرار على الحياد الإيجابى الذى تطور عام 1961 إلى سياسة عدم الانحياز، وكان هذا التوجه المصرى سبباً فى تفجير «اللعنة الأمريكية» على مصر وزعيمها الذى صمد أمام الإغراءات والضغوط وأصر على تحدى سياسة الأحلاف والقواعد العسكرية الغربية.
وفى مؤتمر باندونج لدول آسيا وإفريقيا كانت ذروة المواجهة عندما ترأس الزعيم جمال عبدالناصر لجنة تصفية الاستعمار، وعندما أعلن نداءه الشهير الذى قال فيه: «إن هزيمة الاستعمار فى أى مكان فى العالم هو انتصار لحركة التحرر العربية وحركة التحرر العالمية». وفى باندونج أيضاً التقى جمال عبدالناصر شواين لاى رئيس وزراء الصين حينذاك وعقد معه «صفقة القرن» التى فجرت جنون وزير الخارجية الأمريكى جون فوستر دالاس على وجه الخصوص عندما اعترف جمال عبدالناصر بالصين الشعبية، وكانت هذه الخطوة جريمة لا تغتفر وتستلزم العقاب الشديد من وجهة نظر الولايات المتحدة، فى مقابل توقيع مصر اتفاقية تسليح الجيش المصرى مع الاتحاد السوفيتى بوساطة صينية، وهى الاتفاقية التى عُرفت باسم «اتفاقية كسر احتكار السلاح» أو «اتفاقية الأسلحة التشيكوسلوفاكية»، وكان للصين دور أساسى فى التوصل إليها.
كانت مصر تريد تسليح جيشها ليكون قادراً على الدفاع عن أرضه وحدوده، والرد على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة الذى كان تحت الإشراف المصرى منذ حرب 1948، وكان الرفض البريطانى والأمريكى لتسليح الجيش المصرى دافعاً لتوجه مصر نحو الاتحاد السوفيتى لتسليح جيشها وهو ما تحقق باتفاقية «كسر احتكار السلاح» مع الاتحاد السوفيتى بوساطة الصين، لكن هذا التوجه لم يأت على الهوى الأمريكى فسحب الأمريكيون قرارهم بتمويل بناء السد العالي، وأرغموا البنك الدولى على رفض تمويل هذا المشروع، فكان قرار الزعيم جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس لتوفير مصدر وطنى لتمويل بناء السد الذى أعلن الاتحاد السوفيتى استعداده لبنائه وكان ذلك كافياً لشن بريطانيا وفرنسا عدواناً على مصر تحت غطاء استرداد قناة السويس، ووجد الإسرائيليون فرصتهم لتصفية حساباتهم مع مصر وقيادتها الثورية، فشاركوا فى عدوان ثلاثى استطاعت مصر أن تنتصر عليه وتعلن يوم 23 ديسمبر 1956 عيداً للنصر ومن مدينة بورسعيد الباسلة التى كانت رمزاً للمقاومة الوطنية عيداً للنصر تحتفل به كل عام.
الآن يزور الرئيس السيسى الصين، ومصر تتعرض لضغوط أمريكية سياسية وعسكرية لعدم رضا الإدارة الأمريكية على ثورة 30 يونيو 2013 وإسقاط حكم الإخوان الذين كانوا قاعدة أساس فى تحالفهم الجديد بالشرق الأوسط. هذه الزيارة فى هذا الوقت تأتى ضمن مسار إعادة تخطيط مصر لتحالفاتها ولمشروعها الوطنى المرتكز على استقلالية إرادتها، تماماً كما كانت عامى 1954- 1955، ليس بدافع التحالف ضد أحد ولكن بدافع بناء قدراتها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية التى ستكون حتماً قاعدة التأسيس لاستقلال إرادتها، والتى ترى أن الصين يمكن أن تكون واحدة من أبرز القوى الدولية التى لديها استعداد لدعم هذا التوجه المصرى من منطلق تبادل المنافع والمصالح المشتركة، وبالذات فى ثلاثة مجالات أساسية هى مجال الطاقة النووية ومجال الفضاء ومجال صناعة السلاح، وهى ثلاثة من أهم مجالات بناء الاقتصاد الجديد إضافة إلى مجال صناعة المعرفة وصناعة الطاقة وهى الصناعات التى ستكون قادرة بإذن الله على فرض مصر قوة اقتصادية مشاركة فى الاقتصاد العالمي.