مفارقة غريبة وحزينة فرضت نفسها بقوة، ولكن بطريقة غير مباشرة، على زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى للصين. ففى الوقت الذى كان الرئيس يجاهد فيه مع الأصدقاء الصينيين لفتح أبواب الأمل أمام مستقبل واعد يحلم به المصريون جميعاً
وفى الوقت الذى نجح فيه الرئيس فى التوقيع مع نظيره الصينى على «اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة» إيذاناً ببدء حقبة جديدة من العلاقات المتميزة بين البلدين بما فيها علاقات التعاون فى مجالات التكنولوجيا المتقدمة وعلى الأخص فى مجال صناعة الطاقة، فى هذا الوقت بالذات الذى أخذ يلوح فيه الأمل مبتسماً أمام أعيننا وقعت المفارقة أو الصدمة التى لا يجب أبداً أن تمر مرور الكرام دون محاسبة ودون مراجعة ودون اعتبار. والمفارقة أو الصدمة التى أعنيها هى ما حدث فى حضور السيد رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب بمحطة مياه مركز بلبيس يوم الأربعاء الماضى (24 ديسمبر 2014).
فعقب إعطاء رئيس الوزراء إشارة البدء بتشغيل محطة مياه بلبيس فوجئ سيادته والحضور باندفاع المياه من الخزان الأرضى لتغمر أرض المحطة، ما دفع العاملين إلى الهروع إلى أجهزة الشفط لإنقاذ الموقف شديد الحرج أمام السيد رئيس الوزراء الذى تفضل بتوجيه انتقادات شديدة للمسئولين عن المحطة التى تكلفت 750 مليون جنيه.
حدث هذا أيضاً فى اليوم نفسه الذى كان الرئيس السيسى قد اجتمع فيه مع الوفد الإعلامى المرافق لسيادته والذى دعا فيه المصريين إلى التوحد والاصطفاف لمواجهة التحديات ومحو آثار 30 عاماً من الخراب الذى شهدته البلاد، والذى خصص مساحة مهمة من كلمته للحديث عن الجهاز الإدارى للدولة، وأشار إلى أن هذا الجهاز يحتاج إلى منظومة وآليات جديدة لإصلاحه، ومؤكداً أن هذا الجهاز الإدارى جزء من مؤسسات الدولة ويجب الحفاظ عليه، والعمل على الحد من آثاره السلبية على المجتمع لحين إصلاحه.
هذا يعنى أن الرئيس مهموم بمآسى الجهاز الإدارى وهو فى الصين وأنه يدرك عن قناعة أن هذا الجهاز الإدارى يمكن أن يكون شريك نجاح ويمكن أن يكون شريك فشل، وأن التركيز يجب أن يكون فى العمل من أجل جعل هذا الجهاز الإدارى شريك نجاح، لأن بلدنا غير مستعد أبداً لتجربة فشل. لكن للأسف ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فمن الضرورى ومن الواجب أن ندرك أن مصر تعاني، بكل معنى الكلمة، من أزمة إدارة، وأن السنوات الثلاثين الماضية مثلما عانت من فساد مالى وفساد سياسي، فإنها عانت أيضاً من فساد إداري، كان الوسيط سيئ السمعة بين الفساد السياسى والفساد المالي.
فالفساد السياسى هو الوليد الطبيعى للاستبداد والطغيان، فعندما تحول نظام مبارك إلى نظام استبداد وطغيان فرضت فيه الأجهزة الأمنية سطوتها على الشعب، كان لابد للفساد أن يجد فرصته كى يعشعش فى أجهزة الحكم، ودخل المال أداة حاسمة لمزاوجة الاستبداد بالفساد تحت سمع وبصر كل الأجهزة الرقابية والأمنية التى فرض عليها جميعاً أن تصمت بأوامر عليا وأن تتستر على الفساد. هنا بالتحديد جاء دور الفساد ليتسرب وليتغلغل فى الجهاز الإدارى للدولة، وأن يفرض قانونه الذى ليس بعده قانون.
فالجهاز الإدارى الفاسد هو من أدار عمليات الفساد التى جرت فيها عملية الخصخصة وبيع شركات القطاع العام والبنوك الوطنية بأبخس الأثمان، وجرى بها بيع أراضى الدولة لمحاسيب النظام وحلفائه وشركائه من داخل مصر وخارجها بأثمان تقل عشرات المرات عن تكاليف استصلاحها.
فعلى سبيل المثال تم منح أراضى التنمية الزراعية بسعر 200 جنيه للفدان (4200 متر) وبالتقسيط على آجال زمنية طويلة. جرى هذا على الأراضى الزراعية الواقعة على طريق القاهرة- الإسكندرية الزراعى ومناطق أخرى مماثلة، هذه الأراضى تحولت إلى منتجعات سياحية وسكنية فاخرة وصل سعر المبانى فيها إلى أكثر من 4000 جنيه للمتر الواحد، بحيث تجاوز سعر الفدان 16,8 مليون جنيه وثمنه لم يتجاوز الـ 200 جنيه.
هذا نموذج ومثال صارخ على الفساد ثلاثى الأوجه: السياسى والمالى والإدارى الذى امتد إلى كل شبر من أرض مصر فى توشكا وفى الساحل الشمالي، بل امتد إلى المبانى الحكومية، المستشفيات، المدارس، الطرق، كلها إنشاءات مفعمة بالفساد حيث الكلمة العليا هنا للسمسرة، وما يحدث فى قطاع المياه والصرف الصحى أفدح فى مصائبه، لأن المصائب ليست مجرد سرقة أموال، ولكن تدمير متعمد لصحة ملايين المصريين.
فالتكلفة العالية والمبالغ فيها لمشروعات المياه والصرف الصحى تستنزف الميزانيات المخصصة لهذه المشروعات الأمر الذى يؤدى إلى تعطيلها وتأجيلها لسنوات والنتيجة كارثية. أنه فى غياب الصرف الصحى يجرى الصرف فى الترع التى تروى الأراضى وتشرب منها الحيوانات وتكون مصدرا للأمراض الفتاكة بأجساد ملايين المصريين. يحدث هذا تحت سمع وبصر الحكومة ووزارات الصحة والرى والتنمية المحلية ومعها المحافظات والحكم المحلى الشريك الأهم فى منظومة الفساد.
الموارد تستنزف دون عائد من الخدمات، والأموال تتسرب فى عمولات، ومشروعات فاشلة لا تجد من يراقب ومن يحاسب، ناهيك عن من يعاقب، لذلك من الصعب تصور نجاح مشروع التنمية المأمول دون تفكيك منظومة الفساد الثلاثية: السياسى والمالى والإداري.
الفساد الإدارى يتآمر على الصناعة والزراعة والخدمات بمختلف أنواعها، ولنا فى التدمير الذى تتعرض له صناعة النسيج مثالاً صارخاً حيث تدخل مصر منسوجات معفاة من الجمارك بحجة أنها مواد من مستلزمات الصناعة وليست نسيجاً ينزل الأسواق بأسعار تدمر الصناعة الوطنية. تخريب الصناعة موجود فى تخريب الزراعة وقبلهما قطاع الخدمات وبالذات فى مجالات الصحة والتعليم والنقل. فمعظم المبانى الجديدة سواء كانت مدارس أم كانت مستشفيات ومنشآت متنوعة ومعظم الطرق تستنزف مئات الملايين من الجنيهات ولكنها تكاد تكون منعدمة الجودة وسرعان ما تتعرض للانهيار؛ لأنها تتم عبر مقاولات محكومة بقانون السمسرة دون تدقيق أو رقابة أو محاسبة، لكن الأهم دون ضمير وطني.
نحن نواجه أزمة فساد فى قطاعات مختلفة خاصة الوزارات والشركات العامة، واستمرار هذا الفساد سوف يخرب أى فرصة لنجاح الشراكة الاستراتيجية مع الصين أو مع غير الصين، ومستحيل أن يكون الجيش هو الحل، مستحيل أن يتحول الجيش إلى مقاول يفعل كل شيء ويدير كل شيء، لأن هذه أعباء إضافية تشغل الجيش عن دوره الأساسى فى الدفاع عن مصر والحفاظ على الأمن القومى ويواجه كل خطر وتهديد لأمن مصر واستقرارها.
لم يفكر أحد فى أسباب نجاح كل مشروع يديره الجيش، لم ننشغل فى الإجابة عن هذا السؤال وأن نقولها بأعلى صوت، إن الضبط والربط والمحاسبة الصارمة هى سر نجاح كل مشروع يتولاه الجيش، فلماذا لا يكون الضبط والربط والمحاسبة الصارمة وسيلتنا لإصلاح الجهاز الإدارى وضرب فساده فى العمق ؟كى نستطيع أن نخوض غمار شراكات استراتيجية متعددة، ودون تصفية هذا الفساد سيبقى خوفنا مشروعاً على شراكتنا الوليدة مع الصين، وستبقى صدمة محطة مياه بلبيس عنواناً لهذا الخوف.