إذا اتفقنا على أن أهم المعايير التى يجب أن يختار الشعب وفقاً لها أعضاء البرلمان الجديد هى معيار الانتماء الفعلى للثورة ومعيار الفعالية والكفاءة فى تحقيق الوظائف التى حددها الدستور لمجلس النواب وأعضائه، والتى أجملتها «المادة رقم 101» من الدستور فإن أولى مهام الشعب ومسئوليته، وكافة الأجهزة الإعلامية والثقافية هى ترسيخ هذين المعيارين والتصدى بقوة ووعى لكل المعايير الأخرى الفاسدة والمفسدة التى تستهدف الانحراف بالبرلمان وتفريغه من النواب القادرين على القيام بتلك الوظائف الدستورية.
فقد نصت «المادة 101» من الدستور على أن «يتولى مجلس النواب سلطة التشريع، إقرار السياسة العامة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموازنة العامة، ويمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله على النحو المبين بالدستور». هذه المادة حددت لمجلس النواب وأعضائه ثلاثة اختصاصات أو ثلاث وظائف لا ينازعه فيها أحد هى حسب الأولوية: سلطة التشريع، بما تتضمنه من إصدار تشريعات جديدة يريدها الشعب ويحتاجها الوطن، وإلغاء تشريعات موجودة يبغضها الشعب وتتعارض مع الاحتياجات الوطنية. فسلطة التشريع هذه هى أصل وظائف مجلس النواب والتى لا يقوم بها غيره، ولذلك أخذ اسم «السلطة التشريعية» وأصبح الأعضاء يعرفون باسم «المشرعين».
لقد حرص الفقه الدستورى على مدى التاريخ على الفصل بين السلطات الثلاث الأساس فى الدولة؛ السلطة التنفيذية (الرئيس والحكومة)، والسلطة التشريعية (البرلمان)، والسلطة القضائية (القضاء بفروعه). وحرص، من منطلق الفصل بين هذه السلطات على عدم تغول أو اعتداء السلطة التنفيذية على أى من السلطتين التشريعية والقضائية. فأعطى للقضاء استقلاله التام والكامل، لكن ظلت قضية التوازن فى العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية مثار تنازع تاريخي، لحرص السلطة التنفيذية دائماً على أن يكون لها نفوذها على البرلمان وأعضائه، كى تتمكن من تمرير ما تريده من قوانين، وكى تحول دون محاسبتها أو مراقبتها من البرلمان.
أما الوظيفة أو الاختصاص الثانى لمجلس النواب وفقاً لـ «المادة 101» من الدستور فهى وظيفة إقرار السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموافقة على الموازنة العامة للدولة. فالحكومة مطالبة أن تعرض برنامجها أمام المجلس وللمجلس أن يقبله أو يرفضه أو يعدله، والحكومة مطالبة بأن تعرض على المجلس الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأن تعرض الموازنة العامة على المجلس، الذى عليه أيضاَ أن يقبلها أو يرفضها أو يعدلها.
أما الوظيفة أو الاختصاص الثالث فهو محاسبة ومراقبة الحكومة، من خلال تقديم الأسئلة لرئيس الوزراء وللوزراء ومن خلال طلبات الإحاطة، ومن خلال استجواب رئيس الوزراء أو أى من الوزراء، وللمجلس أن يسحب الثقة من الحكومة أو من أى من الوزراء إن أراد، وله فوق هذا كله، وفى ظروف وبشروط محددة، أن يطالب بإقالة رئيس الجمهورية وهنا يدخل الشعب طرفاً فى تحديد التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من خلال حق الاستفتاء العام ليؤيد دعوة المجلس بإقالة الرئيس، أو يرفض هذه الدعوة، وإذا رفضها يكون المجلس مطالباً بتقديم استقالته، لأن إرادة الشعب هى الإرادة العليا.
هذه الوظائف والاختصاصات الخطيرة ليس من بينها بدعة ما أخذ يُعرف بـ «نائب الخدمات» أى النائب الذى فى مقدوره أن يقدم خدمات أو «رشاوى انتخابية» للمواطنين، سواء كانت نقدية، أو مادية (الزيت والسكر) أو خدمات إدارية؛ مثل توفير الوظائف، أو العلاج على نفقة الدولة، أو شق الطرق وإقامة الكبارى والمدارس والمستشفيات وغيرها من المطالب الكثيرة التى يحتاجها ويفتقدها المواطن المصري، التى هى فى الأصل وظائف الحكم المحلي.
لقد استهدف نظام مبارك، من خلال تعميم معيار نائب الخدمات وغيره من المعايير مثل عصبية العائلات، وتعميق دور المال السياسى إفساد مجمل العملية الانتخابية وتفريغها من مضمونها، وإبعاد البرلمان (مجلس الشعب) عن القيام بوظائفه الدستورية، وخاصة وظيفة التشريع حتى تكون حكراً على الرئيس، هو الذى يشرع لنفسه ما يريد، كما أنه استنكر أى دور يقوم به البرلمان لمراقبته ومحاسبته هو وحكوماته فهو أكبر من أن يحاسب أو يراقب، وبذلك استطاع أن يجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ويضرب عرض الحائط بمبدأ الفصل بين السلطات. وأصبح بذلك حاكماً مستبداً، وبالاستبداد تورط فى الفساد هو ونظامه فكان السقوط حتمياً.
نائب الخدمات هو الابن الشرعى لهذا النظام المستبد والفاسد فنائب الخدمات هو محصلة تفاعل ثلاثة أسباب اجتمعت معاً فى ظل نظام مبارك:
أول هذه الأسباب، أن الانتخابات البرلمانية كانت الفرصة الوحيدة أمام الشعب للاختيار، أو أن تكون له كلمة، أو أن يأتى إليه من يطلب منه وليس من يعطيه. لم يكن للمواطن كلمة فى تعيين وزير أو محافظ أو رئيس مجلس مدينة أو حتى رئيس حى أو مدير مستشفى أو مدير مدرسة، كل هؤلاء مفروضون عليه، فى الانتخابات البرلمانية فقط يجد المواطن المعدم أمامه فرصة ليفرض شروطه وليختار، وللأسف لم يكن يجد أمامه إلا من يقدمون الرشاوي، وتحول الاختيار من اختيار النائب الصالح إلى اختيار الرشوة الأفضل والأنسب.
السبب الثانى هو غياب المحليات واختفاء الانتخابات المحلية وقيادات المحليات المختصون والمكلفون بتقديم الخدمات بكافة أنواعها إلى المواطنين، فتم الخلط بين وظيفة النائب التى هى بالأصل وظيفة التشريع والحكم جنباً إلى جنب مع السلطة التنفيذية، وبين وظيفة نائب المحليات الذى عليه أن يكون على علاقة تماس مباشرة مع احتياجات المواطنين وصلة الوصل بين المواطن وأجهزة الحكم المحلى فى محافظته.
أما السبب الثالث، فهو ما أشرنا إليه من تعمد النظام الحاكم الانحراف بوظيفة البرلمان وقصرها على وظيفة الخدمات المحلية، وكان الحزب الحاكم هو أداة تحقيق ذلك، لأن الحزب كان يوفر لنوابه ومرشحيه كل فرص تقديم الخدمات التى هى حق أساسى لكل مواطن دون تمييز ودون شروط، باعتبارها رشوة مقابل صوته الانتخابي.
الآن انتهى هذا الشرط الموضوعي، لا يوجد الآن «حزب حكومة» يقدم الوعود والرشاوى الانتخابية للانحراف بالمعايير الأساسية لاختيار الأفضل من بين المتقدمين لعضوية مجلس النواب، والأهم هو أن مصر فى حاجة إلى «ثورة تشريعية» بكل معنى الكلمة، مصر فى حاجة إلى مشرعين، وإلى كفاءات وطنية قادرة على التشريع، وإقرار السياسة العامة للدولة، والموازنة العامة ومراقبة ومحاسبة الحكومة.
لو عرفنا أن مجلس النواب سيكون مطالباً، وفقاً للدستور، بأن يقر أو يعدل أو يعترض خلال أسبوعين فقط من انعقاده كل القرارات بقوانين التى أصدرها الرئيس السابق المستشار عدلى منصور والرئيس عبد الفتاح السيسى والتى لا تقل، حتى الآن عن 150 قرارا بقانون، وإذا عرفنا أن المجلس أمامه ترسانة من القوانين الفاسدة يجب التخلص منها، وأنه مطالب بتحويل الدستور الجديد إلى قوانين تحقق أهداف الثورة وتحقق طموحات الشعب فى الحصول على كل حقوقه لأدركنا أننا فى حاجة فعلاً إلى «ثورة تشريعية» وإلى «ثوار تشريعيين» يقومون بهذه المهمة وليس إلى نواب خدمات أو نواب فرضهم المال السياسى أو العصبيات العائلية.