الانتخابات البرلمانية والقيم الحاكمة للمسئولية السياسية
شغلنى كثيراً طيلة الأشهر القليلة الماضية، وبالذات منذ أن بدأت أنشطة التنافس بين الأحزاب بأنواعها وعقائدها السياسية المختلفة (إن كانت لها عقائد سياسية) وبين الأفراد بجميع اتجاهاتهم وانتماءاتهم ومصالحهم على الانتخابات المقبلة للبرلمان المصرى الجديد، سؤال محورى يتعلق بالأسباب الحقيقية وراء كل هذا التنافس الذى يدفع أصحابه إلى إنفاق مئات الملايين من الجنيهات فى أشكال مختلفة من الدعاية ورشوة الناخبين، والإمعان فى التضليل والكذب والإسراف فى إطلاق الوعود التى ليس لها أى أساس من الصحة أو اليقين. لماذا كل هذا الحرص على الفوز بعضوية البرلمان سواء من جانب الأفراد أو الأحزاب.
السؤال اكتسب أهمية أكبر بعد دخول الدولة منافساً لكل المتنافسين من أحزاب وأفراد (وعائلات وجماعات مصالح مختلفة) فى هذه العملية من خلال إصدار القوانين المنظمة لهذه العملية الانتخابية بطريقة جعلتها طرفاً منافساً ومشاركاً وليس طرفاً محايداً أو منظماً. مما يعنى أنها صاحبة مصلحة فى أن يأتى للبرلمان أعضاء لهم مواصفات ترضى عنها الحكومة، بدليل إصدارها لقانونين معيبين فى حقها، وربما يكونان سبباً، فى المستقبل للطعن على دستورية البرلمان الجديد هما: قانون انتخابات مجلس النواب، الذى جاء «قانوناً إقصائياً» وغير عادل، ولا يلتزم بمبدأ «تكافؤ الفرص»، ومن بعده جاء قانون تقسيم الدوائر ليمعن فى المظالم ويهدر مبدأ تكافؤ الفرص إهداراً متعمداً وجائراً، عندما انحاز لمحافظات ضد محافظات، وعندما انحاز لدوائر داخل المحافظات على حساب دوائر أخرى داخل المحافظة نفسها، وحتى أكون دقيقاً فيما اكتب أذكر بالتحديد دائرتى الانتخابية فى محافظة المنوفية، وبالتحديد دائرة «بركة السبع» التى ظلمت ظلماً بيناً، عندما ألحقوها مرة بدائرة قويسنا، ومرة أخرى عندما خصصوا لها مقعداً واحداً فى مجلس النواب بعد أن استجابوا مشكورين، لندائنا بضرورة استعادة دائرة بركة السبع دائرة مستقلة وفصلها عن دائرة قويسنا، فى حين حصلت دائرة أشمون على ثلاثة مقاعد، وحصلت كل من دائرتى تلا والشهداء على مقعدين لكل منهما رغم أنهما لا يزيدان كثيراً فى أعداد أصواتهما الانتخابية عن دائرة بركة السبع.
لماذا دخلت الحكومة طرفاً فى المنافسة؟ ما هى خلفيات هذا الدخول والتخلى عن الحيادية اللازمة؟ ولماذا كل هذا التكالب والتنافس والضغائن بين الأحزاب وبين الأفراد ليس فقط للحصول على عضوية مجلس النواب، بل وللسيطرة على الأغلبية لامتلاك القرار داخل المجلس؟
لو أنه تنافس، يصل إلى حد التحارب، من أجل وجه الله سبحانه وتعالى ومن أجل الوطن ومصالحه ومستقبله ونهضته، لحمدنا لهم جميعاً ذلك وسجدنا لله شاكرين، لكن فى تصورى أن المسائل أكبر وأسوأ من كل ما نتصور، إذا أخذنا فى الاعتبار ما وراء المال السياسى من خلفيات، وما وراء حرص فلول نظام مبارك للعودة إلى البرلمان.
فى الماضي، كانت عضوية البرلمان، وراءها أهداف وطنية وأهداف أخرى معنوية مثل حرص العائلات والأسر الكبيرة على مسائل من نوع المكانة الاجتماعية (منذ أول برلمان مصرى فى العصر الحديث أى منذ سنة 1924 وحتى آخر برلمان استطاعت 40 عائلة، دون غيرها، أن تفرض نفسها على برلمانات مصر)، لكن العقود الثلاثة الماضية تميزت بوجود دوافع أخرى غير الأبهة والمكانة على رأسها بالطبع الإثراء الحرام واستخدام «الحصانة البرلمانية» أداة للابتزاز والرشوة والحصول على مكاسب مادية ومعنوية تعوض كل ما أنفقه النائب من ملايين الجنيهات فى الدعاية الانتخابية وغيرها، أو لاسترداد ما سبق أن دفعه من رشوة لقادة حزبه. أما الدولة فكانت لها دوافع أسوأ وأخطر. كانت تريد أن تسيطر على ثلثى البرلمان لامتلاك القرار داخله وتحصين نفسها من كل مساءلة أو محاسبة، ولضمان تحويل البرلمان إلى أداة من أدوات الرئيس والحكومة فى احتكار السلطة، وتوظيف ذلك أداة للسيطرة على الثروة من خلال إطلاق العنان للفساد بكافة أنواعه وأشكاله، من بيع لأراضى الدولة بأبخس الأثمان للشركات الخاصة والأفراد والحصول على الرشوة أو النسبة المطلوبة، ومن بيع للثروة الاقتصادية الوطنية من مصانع وشركات ناجحة بأثمان تقل كثيراً عن عشر ثمن الأرض المقامة عليها تلك المصانع والمنشآت، مقابل الحصول على عمولة بعشرات ومئات الملايين.
باعوا مصر وثرواتها، أفقروها، وحولوها إلى دولة متسولة للمعونات، كما حولوها إلى دولة مدينة وعاجزة عن دفع أقساط الديون، ناهيك عن تسديد الديون. سلبوا من الشعب كل حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حرموه من حقه فى العمل عندما أصبحت البطالة عنواناً للاقتصاد المصري، وحرموه من حقه فى العلاج، عندما جعلوا العلاج على نفقة الدولة استثناء لأصحاب الحظوة من المنتسبين للحزب الحاكم وأعوانهم وأقاربهم، تاجروا فى تأشيرات الحج والعمرة، وأفسدوا التعليم، وأهدروا مبدأ تكافؤ الفرص، عندما أدخلوا أنواعاً منافسة أخرى من التعليم خاصة التعليم الأجنبى والتعليم الخاص، وعندما جعلوا السوق الاحتكارى هو المتحكم فى أسعار السلع كافة من الحديد والأسمنت إلى اللحوم والأسماك والخضراوات وجميع أنواع البقالة، عندما أطلقوا العنان، بالرشوة والمحسوبية لشركات محدودة من أصحاب الحظوة بالتحكم فى الاستيراد من الخارج، وبالذات استيراد المواد الغذائية والسلع المعمرة، الأمر الذى جعل المواطن المصرى يدفع أثماناً للسلع تفوق أثمانها فى أمريكا وأوروبا، فى حين أن دخله الشهرى يقل عشرات المرات عن دخل المواطن العادى فى هذه البلاد.
كل هذا حصل، وزاد عليه حرمان المواطن من حقوقه السياسية خاصة حقه فى السلطة والحكم من خلال تمكينه من حقه فى الاختيار الحر لمن يريده رئيساً أو نائباً، وحرموا حقه فى حرية الفكر والثقافة والتعبير والتنظيم، مما أدى إلى عزوف الشعب عن المشاركة فى كل أنواع الانتخابات ما جعل تلك العملية أشبه بـ «مسرحية هزلية وسيئة السمعة».
الآن نريد أن نتخلص من ذلك كله، نريد إسقاط كل هذا الماضي، فهل تغيرت دوافع الأفراد والأحزاب والحكومة من التنافس فى الانتخابات؟
هل عند هؤلاء مفهوم واضح للوطنية وللمشروع الوطني، هل المرشحون يتنافسون من أجل الوطن، وإذا كان هذا صحيحاً لماذا صدموا من إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسى حرصه على «عدم قيام الدولة ومؤسساتها بدعم أية تحالفات سياسية أو قوائم حزبية، وعدم اعتزامه إنشاء حزب سياسى تجنباً لحدوث انقسام أو استقطاب فى هذه المرحلة الحرجة التى تتطلب تكاتف الجميع والاصطفاف من أجل تحقيق مصلحة الوطن».
الصدمة سببها أن أغلب كل هؤلاء يحلمون بأن يكونوا حزب الرئيس أو أعضاء فى حزب الرئيس كى تعود الأوضاع إلى سابق عهدها من فساد ومحسوبية. كل هؤلاء لم يشغلوا أنفسهم فى إدراك المعنى الحقيقى للمسئولية السياسية وللقاعدة الحاكمة فى هذه المسئولية وهى «الثقة» أو «المصداقية» التى أفرد لها عالم السياسة الأمريكى «فرانسيس فوكوياما» مؤلفاً شديد الأهمية عنوانه «الثقة: الفضائل الاجتماعية وتحقيق الازدهار»، أراد به أن يؤكد أن تحقيق الازدهار مرهون بشيوع الفضائل والأخلاق الاجتماعية، وفى مقدمتها الثقة والمصداقية التى يجب أن تكون عنواناً للمسئولية السياسية وفى مقدمتها، العمل الحكومى والعمل البرلماني، وهذه كلها قضايا تحتاج إلى المزيد من التفصيل.