يعد منهج تحليل الخطاب من بين أهم المناهج المستحدثة فى العلم الاجتماعى المعاصر لأنه تجاوز بمسلماته النظرية وفئاته التحليلية المنهج التقليدى لتحليل المضمون الذى كان يقوم أساساً على فئتين رئيسيتين للتحليل هما ماذا قيل وكيف قيل؟.
ومنهج تحليل الخطاب يحاول فى الواقع مجابهة القصور النظرى فى منهج تحليل المضمون، لأنه يعتمد أساساً على تفكيك الخطاب للكشف عن بنيته العميقة، والدليل على ذلك القاعدة المعروفة له وهى «أن ما سكت عنه الخطاب قد يكون أهم مما ذكره الخطاب»! وقد لفت نظرنا من قبل عالم الإسلاميات الشهير الدكتور «محمد أركون» أنه من بين الفئات الأساسية للتحليل هى ما أطلق عليه «ما لم يفكر فيه الخطاب».لا نريد أن يجرفنا الحديث عن مناهج البحث وهى أحد اهتماماتى الأكاديمية الرئيسية عن التحليل المنهجى لخطاب الرئيس «السيسى» فى «دافوس»، والذى أعتبر أنه يقدم فيه لأول مرة رؤية استراتيجية متكاملة لمصر بالمعنى الدقيق للكلمة.وقد تناول الرئيس «السيسى» ستة موضوعات رئيسية هى محكات الشرعية السياسية وكيف طبقها الشعب المصرى، وحرب مصر على الإرهاب وأهمية التعاون الدولى فى مواجهته، وبناء المؤسسات الديمقراطية، والرؤية التنموية المصرية والإصلاح المؤسسى، وموقف مصر من الصراعات السياسية فى الشرق الأوسط، وتمكين الشباب، والنقد العنيف لمن يزعمون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة.
وموضوع الشرعية السياسية يكاد أن يكون أخطر الموضوعات قاطبة التى آثارها الرئيس «السيسى»، لأنها على المستوى النظرى وعلى المستوى العملى تثير إشكاليات متعددة ليس فى العالم العربى فقط ولكن عالمياً.
ولعل مرد ذلك إلى القصور الشديد فى صيغة الديمقراطية التمثيلية التى تنص -فى الانتخابات الرئاسية مثلاً- أنه من حصل على 50% +1 يعتبر منتصراً ويصبح رئيساً. وهكذا بتطبيق هذه القاعدة المعترف بها عالميا حصل الرئيس الأسبق «محمد مرسى» على 52% بالرغم من كل محاولات التزوير الثقافى والمعنوى الذى مارسته جماعة الإخوان المسلمين وخصوصاً خلطها بين الدين والسياسة، وبالرغم من تحالف لفيف من الليبراليين السذج مع «مرسى» ضد المرشح المنافس الفريق «أحمد شفيق». ومعنى ذلك أن نحو نصف الشعب المصرى لم يوافق على أن يصبح «مرسى» رئيساً.
وهذا الوضع الناشئ من نظرية الديمقراطية التمثيلية عادة ما تكون له آثار سلبية وخصوصاً حين ينزع الرئيس المنتخب كما فعل مرسى- إلى أن يستأثر بالسلطة وينفرد باتخاذ القرار فى مخالفة صارخة لقيم الديمقراطية والتى لم يعترف بها حين ركز فقط على آليات الديمقراطية، وهى تعنى أساساً نتيجة الصندوق الانتخابية. والسؤال هنا: ماذا قال الرئيس «السيسى» بصدد الشرعية السياسية؟ «قال بالنص» التاريخ القريب يشهد على قدرة ووعى شعب مصر الذى أزال حكم الفرد عندما تجاوز الشرعية، ولم يتردد عن نزع هذه الشرعية عمن أرادوا أن يستأثروا بها ويطوعوا من خلالها الهوية المصرية والانحراف بها عن سماتها التاريخية من تنوع وإبداع وانفتاح على العالم.
ومعنى ذلك أن الرئيس يميز بين حالتين هى حالة ثورة 25 يناير، والانقلاب الشعبى الذى قامت به الجماهير فى 30 يونيو.
فى 25 يناير قامت الثورة أساساً ضم حكم الفرد ومثله الرئيس «مبارك» الذى احتكر اتخاذ القرار وألغى عملياً كل المؤسسات، ومن ثم اعتبرت جماهير الشعب المصرى التى التحمت بالانتفاضة الجماهيرية التى أشعل فتيلها شباب الناشطين السياسيين أن الرئيس الأسبق قد تجاوز بسلوكه السياسى- الشرعية ومن ثم حق إسقاطه بالثورة.
أما الحالة الثانية -وقد تكون أهم من الحالة الأولى والتى تعد تكراراً لما حدث فى تونس وغيرها من بلاد الربيع العربى- هى أن الشعب المصرى خرج فى 30 يونيو بناء على مبادرة من حركة «تمرد» ودعم جسور من القوات المسلحة المصرية ضد رئيس الجمهورية الإخوانى المنتخب لأنه حسب عبارات الرئيس- نزع الشرعية عمن أرادوا أن يستأثروا بها ويطوعوا من خلالها الهوية المصرية والانحراف بها عن سماتها التاريخية من تنوع وإبداع وانفتاح على العالم.
والفهم العلمى الدقيق لهذه العبارات أن جماعة الإخوان المسلمين وعلى رأسها ممثلها فى الحكم الرئيس الأسبق «مرسى» اعتمدت على آليات الديمقراطية فقط فى الوقت الذى ألغت فيه تماماً قيم الديمقراطية، وأهمها على الإطلاق الحوار مع المعارضة وعدم إقصائها الكامل من العملية السياسية وتطبيق الحلول الوسط.
ويشهد على ذلك استئثار حكم جماعة الإخوان المسلمين بالسيطرة الكاملة على اللجنة التأسيسية للدستور، والحرص على صياغته بما يحقق أهداف الجماعة وليس تعبيراً عن جموع الشعب المصرى.
كل ذلك بالإضافة إلى العدوان المنهجى على مؤسسة القضاء ومحاولة تفكيك نظام الشرطة والنفاذ إلى القوات المسلحة. ويمكن القول إن هذه المثالب يمكن أن تساعد فى سياق النقد السياسى العنيف لنظام الحكم الإخوانى الذى ظل ومازال حتى الآن يلوك كلمة «الشرعية» مع أنه عمل ضدها بشكل منهجى.
غير أن عبارة الرئيس المهمة تنطلق من نقد ثقافى عميق للممارسة الإخوانية المريرة، لأن الجماعة الإرهابية- فى سبيل تحقيق مخططها فى أخونة الدولة وأسلمة المجتمع أرادت أن تعييد صياغة الهوية المصرية، والتى هى نتاج تراكمات تاريخية تشكلت عبر العصور ومرت بحقبات أساسية ثلاث هى المرحلة الفرعونية التى شهدة ولادة الضمير الإنسانى، والمرحلة القبطية التى قدمت للعالم نظام الرهبنة، والمرحلة الإسلامية التى حددت المعالم الرئيسية للهوية المصرية والتى قامت على أساس تجربة فريدة فى العالم هى تجربة «العيش المشترك واحترام الآخر المختلف دينياً». والدليل على ذلك هو تعايش المسلمين والأقباط واليهود فى مصر المحروسة. هذا التعايش لم تنل منه محاولات الفتنة والوقيعة سواء جاءت من قبل قوى استعمارية أو من جانب تنظيمات دينية متشددة.
لقد كان من بين سمات الهوية المصرية التقليدية الانفتاح على العالم. ويشهد على ذلك أنه منذ تجربة «محمد على» مؤسس مصر الحديثة والذى أقام جسرا طويلاً للتبادل الثقافى بين مصر والغرب ومصر لم تتوقف عن التفاعل الحى الخلاق مع كل الدوائر السياسية والثقافية العالمية.
ويكفى أن نشير بهذا الصدد إلى دور مصر فى عهد «جمال عبدالناصر» فى تأسيس حركة عدم الانحياز، بالإضافة إلى الصلات الثقافية الوثيقة التى أقامتها مصر مع روسيا والصين والهند واليابان ودول أمريكا اللاتينية.
كل هذا الانفتاح أرادت جماعة الإخوان المسلمين أن تلغيه فى ضوء أممية إسلامية وهمية لا تقدس حدود الوطن، وتقوم على معاداة الآخر، والعجز عن فهم منطق حوار الثقافات الذى يميز عصر العولمة، وليس صراع الحضارات كما زعمت بعض الأصوات العنصرية.