زيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين لمصر التى بدأت أمس الإثنين (9/2/2015) وتستمر ليومين جاءت فى وقت شديد الحساسية بالنسبة لكل من مصر وروسيا مفعم بالتهديدات والضغوط غير الأخلاقية التى تشارك فيها أطراف إقليمية ودولية.
هذه التهديدات والضغوط تفرض على البلدين ضرورة التأسيس لعلاقة «تعاون استراتيجي» يشمل المجالات الأساسية للتعاون: السياسى والعسكرى والاقتصادى إضافة إلى مجالى التعاون العلمى والتكنولوجى خاصة فى مجالات الصناعة المتقدمة: صناعة الطاقة، وصناعة الفضاء، والصناعة النووية، وصناعة السلاح، وأخيراً صناعة المعرفة، وهى بالمناسبة صناعات التحدى والمستقبل، ولن تستطيع مصر أن تكون قوة إقليمية وعالمية إلا بقدر تمكنها من مشاركة العالم بفعالية فى هذه الصناعات، وهى بالمناسبة أيضاً لن يكون أمرها ميسراً لمصر مع القوى الحليفة التقليدية خاصة الولايات المتحدة وأوروبا، هذه القوى تعطينا منتج هذه الصناعات وبشروط سياسية مجحفة لكنها لا تعطينا العلم والمعرفة لإنتاجها، وحدها روسيا وربما الصين مؤهلتان، دون غيرهما، للتعاون معنا فى هذه الصناعات شديدة الحساسية؟
قد يثور تساؤل مهم: ولماذا تعطينا روسيا المعرفة اللازمة للدخول فى هذه الصناعات؟
والإجابة هى أن روسيا ترى فى مصر شريكاً إقليمياً مهماً على المستوى السياسي-الاستراتيجي، وأن روسيا ترى فى مصر شريكاً فى مجالات التعاون الاقتصادى المختلفة وبالذات حاجة روسيا إلى المنتجات الزراعية المصرية، والغذائية خاصة فى ظل المقاطعة الأوروبية لها بسبب أحداث أوكرانيا. لكن حاجة روسيا لمصر كشريك سياسي- استراتيجى تفوق بمراحل حاجتها لمصر فى مجالات المنتجات الزراعية والغذائية.
فروسيا تواجه حرباً سياسية- اقتصادية معنوية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. بدأت بالمقاطعة والضغوط الاقتصادية وامتدت إلى مجال «حرب أسعار البترول» التى أدت إلى انهيار هذه الأسعار، وتعرض الاقتصاد الروسى والعملة الروسية، على وجه الخصوص، لخسائر فادحة. الهدف من هذه الحرب هو تركيع روسيا، وإعادتها مرة ثانية إلى قوة من الدرجة الثانية، وحرمانها من التمتع بدور القوة المنافسة للولايات المتحدة على زعامة النظام العالمى بعد تزعزع الزعامة الأمريكية، بعد كل ما حدث من تطورات أدت إلى حدوث انتشار غير مسبوق فى توزيع القوة العالمية بين العديد من القوى العالمية والإقليمية فى مقدمتها روسيا والصين والهند إضافة إلى البرازيل وجنوب أفريقيا(وكلها تشكل مجموعة «بريكس» الاقتصادية) التى استطاعت أن تقلب موازين القوى العالمية فى غير صالح الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين: الاتحاد الأوروبى واليابان.
هذه الحرب تواجهها روسيا بالتحرك النشط نحو القوى الفاعلة فى الأقاليم وفى مقدمتها إقليم الشرق الأوسط. فروسيا موجودة وبقوة فى سوريا، ولها علاقاتها المميزة مع إيران، لكنها فشلت فى أن تطور علاقات قوية مع دول الخليج بسبب الخلافات على الموقف من الأزمة السورية، كما أنها تواجه بمنافسة أمريكية فى علاقاتها مع إيران، الأمر الذى يزيد من مكانة مصر فى المنظور الاستراتيجى الروسي، خصوصاً فى ظل وجود محفزات قوية تدفع روسيا نحو مصر أبرزها أن مصر باتت مهمومة مثل روسيا بالحرب على الإرهاب، ويمكن أن تحقق الشراكة المصرية- الروسية فى هذه الحرب نجاحات مهمة خصوصاً بعد وصول كل من القاهرة وموسكو إلى قناعة بأن واشنطن أضحت قوة داعمة للإرهاب فى الشرق الأوسط، وهناك أيضاً تقارب الرؤى الروسية- المصرية بالنسبة للأزمة السورية، إضافة إلى إدراك روسيا أن مصر فى حاجة إليها كداعم مهم فى التسليح والصناعة العسكرية، والأهم هو حاجة مصر إلى روسيا كموازن دولى داعم لها فى إدارة الحرب على الإرهاب فى ظل التحولات والانكشافات فى الموقف الأمريكى من هذه الحرب.
لقد شاءت الأقدار أن تضع روسيا ومصر فى مواجهة مع حرب إرهابية تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية فى مرحلتين تاريخيتين.
ففى عقد الثمانينيات من القرن الماضى أدارت الولايات المتحدة بالتعاون مع أطراف إقليمية (باكستان) وعربية (دول ومخابرات خليجية) حرباً إرهابية ضد الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان. فبعد أن تورط الاتحاد السوفيتى فى الأزمة الأفغانية الداخلية عام 1979 قررت الولايات المتحدة أن تؤسس وتنشئ منظمات جهادية إسلامية لتخوض حرباً بالوكالة ضد الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان. وكان تنظيم «القاعدة» أو بالتحديد ما سمى بـ «قاعدة الجهاد» بزعامة أسامة بن لادن هو هذه المنظمة التى جرى تمويلها بأموال الخليج وتسليحها أمريكياً وإدارتها من جانب المخابرات الأمريكية ومخابرات باكستانية وأخرى عربية خليجية تحت مسمى «الحرب الجهادية» أو «حرب العقيدة». وبعد أن خرج الاتحاد السوفيتى مهزوماً من أفغانستان، وبعدها كان تفككه وانهياره، ظهرت منظمة طالبان الأفغانية ورديفها الباكستانى ليرث الحكم فى أفغانستان، وانقلبت طالبان على الأمريكيين، كما انقلبت «القاعدة» على «ولاة الأمر الخليجيين» وبدأت حرب الجهاد العالمية ضد الدول الخليجية وضد الولايات المتحدة وكانت تفجيرات 11 سبتمبر 2001 هى ذروة هذا الانقلاب من جانب «القاعدة» و«طالبان» على الداعمين السابقين.
والآن تكرر الولايات المتحدة التأسيس لحرب إرهابية جديدة، ولكنها هذه المرة تحدث على أرض العرب، وفى العراق جرى توليد تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق» دخل تنظيم «القاعدة» إلى سوريا، ومعه تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق» الذى تحول إلى«الدولة الإسلامية فى العراق والشام» (داعش). وبدأت «الحرب الجهادية» فى سوريا ضد النظام السورى بدعم أمريكي- أوروبي- تركي- عربي، جنباً إلى جنب مع «حرب التحرير» التى كان يخوضها ما سمى بـ «الجيش السورى الحر» المدعوم من معارضة سورية مدنية وإخوانية، لكن الحرب فى سوريا آلت فى النهاية إلى حرب تخوضها العشرات من المنظمات الجهادية (التكفيرية) على رأسها كل من القاعدة و«داعش».
هذه الحرب لم تعد بعيدة عن مصر. فمصر ومنذ 30 يونيو تواجه حرباً إخوانية إرهابية لإسقاط الثورة واستعادة الحكم، لكن المنظمات الإرهابية الموالية لـ «داعش» و«القاعدة»خاصة تنظيم «أنصار بيت المقدس»، كما دخلت طرفاً مباشراً فى مخطط «إسقاط الدولة» على نحو ما يدور فى العراق وسوريا. وللمرة الثانية تدخل الولايات المتحدة طرفاً داعماً لهذا الإرهاب.
وهكذا يوحد الإرهاب بين مصر وروسيا خصوصاً وأن الإرهاب الجديد الموجه ضد الوطن العربى يمتد إلى روسيا عبر الشيشان وغيرها، كما أنه يهدد الحليف الأهم لروسيا فى المنطقة، (سوريا)، ولذلك تكتسب الزيارة الحالية للرئيس بوتين لمصر أهمية قصوى نأمل أن تتوصل إلى تأسيس شراكة مع مصر لمحاربة الإرهاب، وأن تكون هذه الشراكة قاعدة تأسيس لما هو أهم، وأعنى أن تكون روسيا «موازنا عالميا» داعما لمصر بعد تزعزع الثقة فى الحليف الأمريكى.