منذ أن تم الإعلان عن تحديد موعد زيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين لمصر (9 و10 فبراير 2015) وأنا فى حالة تأهب نفسى لاتخاذ خطوة جسورة من جانب الرئيس عبد الفتاح السيسى للدفع بمصر نحو الانخراط فى سباق بناء اقتصاد مصرى جديد ضمن «شراكة مؤتمنة» مع روسيا.
اقتصاد يختلف كثيراً عن نمط الاقتصاد التقليدى القائم على أساس من استهلاك المعرفة المصنعة إلى اقتصاد صناعة المعرفة. فقد عشنا عقوداً نستورد بعض الصناعات المتقدمة فى مجالات مختلفة بعد أن دمرنا قاعدتنا الصناعية الوليدة التى أقمناها فى عقدى الخمسينيات والستينيات من خلال التعاون مع الاتحاد السوفيتى، الذى مد لنا يد العون لبناء السد العالى، ومن بعده مئات المصانع والشركات الصناعية بعد أن خذلنا الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة بعد سحب مشروع تمويل بناء السد العالى اعتراضاً على قرار مصر تأميم قناة السويس.
وبعد تحولنا نحو الغرب مجدداً بعد تصفية علاقة التعاون الاستراتيجى مع الاتحاد السوفيتى بقرار من الرئيس أنور السادات بإيحاء وإغراء من صديقه هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى تحولنا نحو التبعية للولايات المتحدة والانخراط فى سياسة «الانفتاح الاقتصادى» تحت وهم شعار «إعادة هيكلة الاقتصادى المصرى» التى تم خلالها تدمير هياكل هذا الاقتصاد ما أدى إلى تحول مصر إلى دولة متسولة للمعونات الأمريكية، وأدت بنا هذه التبعية إلى إهدار استقلالية القرار الوطنى المصرى فى جميع المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
الآن وبعد استرداد استقلالية قرارنا بإسقاط نظام التبعية للغرب و«الصداقة» لإسرائيل بعد ثورة 25 يناير، وبعد إسقاط نظام الإخوان الذى كان يعد لعلاقة تحالف استراتيجى أكثر سوءاً مع الأمريكيين، كان لابد من التفكير فى أن تعود مصر مجدداً إلى عصر الإنتاج ولكن وفق شروط وحسابات العصر الذى نعيشه، وهى ذاتها شروط «التقدم الآمن» التى تضم الصناعات الخمس الكبرى التى سبق أن تحدثنا عنها فى الأسبوع الماضى وهى: صناعة الطاقة، وصناعة الفضاء والصناعة النووية، والصناعة العسكرية وأخيراً صناعة المعرفة، والتحول إلى مجتمع إنتاج المعرفة، والتى بدونها لن نستطيع أن نكون قوة اقتصادية صناعية مشاركة بفعالية فى الإنتاج العالمى وقادرة فى الوقت ذاته على المنافسة.
هذه الصناعات الخمس الكبرى يجب أن تكون مرتكز مشروع الرئيس عبدالفتاح السيسى لإعادة تأهيل مصر مجدداً لتكون «قوة إقليمية كبرى» قادرة على المنافسة وقادرة على المشاركة فى صنع القرار الدولي. لكن الاعتماد على الغرب، سواء كان أمريكا أم الاتحاد الأوروبي، فى الانخراط فى هذه الصناعات سيكون ضرباً من الوهم والخيال. فهؤلاء جميعاً يريدون أن تبقى مصر دولة تابعة وضعيفة كى يأمنوا على حليفتهم إسرائيل. فمصر القوية خطر على إسرائيل، أى خطر على المصالح الأمريكية خاصة والمصالح الغربية على وجه العموم، لذلك كان لابد من التوجه نحو كل من روسيا والصين.
يكفى أن نشير هنا إلى أن إسرائيل كانت الطرف الأكثر انزعاجاً من توتر علاقات التعاون العسكرى الأمريكى مع مصر عقب ثورة 30 يونيو التى ظل الأمريكيون يتعاملون معها من الناحية الفعلية باعتبارها «انقلابا على الشرعية» وهو نفس مواقف حلفائهم من إخوان إلى أتراك إلى قطريين.
انزعاج إسرائيل لم يكن حباً فى مصر بل كان خوفاً من أن تتحول مصر إلى التعاون مع أطراف دولية أخرى تحصل منها على أسلحة تجعل مصر قادرة على تهديد «إسرائيل»، أو على الأقل تجعل مصر آمنة من أى تهديد إسرائيلي. فمصر الآمنة ومصر القادرة لن يستطيع أحد ابتزازها وإملاء الشروط عليها.
ويكفى أن نشير إلى التوتر الإسرائيلى الهائل بعد زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى الأولى لروسيا (وقت أن كان وزيراً للدفاع) ثم زيارته الثانية بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية، وبالذات بعد الإعلان عن توقيع عقود شراء أسلحة روسية متقدمة منها صواريخ «اس.اس300» الدفاعية، القادرة على تدمير أى هدف (صاروخ - طائرة) قبل أن يصل إلى الأراضى المصرية.
والآن نستطيع إن نقول أن زيارة الرئيس الروسى لمصر قد وضعت مرتكزات لعلاقة تعاون استراتيجى جديدة بين البلدين من شأنها أن تعيد التوازن المفتقد فى علاقات مصر الدولية، وأن تعيد لمصر التوازن فى إدارة اقتصادها الوطنى بتحرير الإرادة السياسية وتحرير الإرادة الاقتصادية.
فما تم الاتفاق عليه بين الرئيس عبد الفتاح السيسى والرئيس الروسى فلاديمير بوتين يفوق كل توقع. فعلاوة على التفاهمات شديدة الأهمية فى الإصرار على الانتصار فى الحرب على الإرهاب، وفى إيجاد حلول سياسية للأزمات الإقليمية المتفاقمة خاصة فى سوريا والعراق واليمن وليبيا ودعم حقوق الشعب الفلسطينى فى السلام العادل، جرى الاتفاق على أن تدعم روسيا مصر فى أربعة مجالات من مجالات الصناعات الخمس الكبري: هى مجالات صناعة الطاقة ومجال صناعة السلاح ومجال الصناعة النووية ثم مجال صناعة الفضاء، وهى مجالات تقود حتماً نحو مجال صناعة المعرفة حسب ما ورد على لسان الرئيس الروسى الذى أكد أن «هناك اتفاقات جديدة للتعاون فى مجال الطاقة النووية، وأنه يتطلع إلى قرارات نهائية لإنشاء محطة نووية فى مصر وتدريب الكوادر المصرية على تشغيلها، فضلاً عن تطوير البحوث العلمية فى هذا المجال ليصبح لدى مصر مشروع نووى متكامل».
كما أكد أيضاً أن «هناك آفاقاً واعدة للتعاون فى مجالات الاستخدام السلمى للفضاء الكونى باستخدام الأقمار الصناعية فضلاً عن تقديم حزمة من المشروعات الاستثمارية إلى مصر فى مجالات البنية التحتية للمواصلات وصناعة السيارات والصناعات الكيماوية». لكن أهم ما ورد على لسان الرئيس بوتين قوله إن «الجانبين المصرى والروسى بحثا التعاون فى مجال الطاقة النووية بهدف خلق فرع كامل فى الاقتصاد المصرى يسمى الاقتصاد النووى».
هذا ما نريده وما نأمله أن يكون لدينا اقتصاد جديد وعالم جديد من الصناعات هو «الاقتصاد النووي»، وهذا يعنى أن يكون لدينا مشروع نووى متكامل بما فيه تخصيب اليورانيوم وإنتاج الوقود النووى محلياً وليس مجرد شراء محطة نووية لإنتاج الكهرباء «تسليم مفتاح» لا نعرف عنها شيئاً.
وهذا يستلزم أن يكون هذا المشروع خارج إطار اختصاصات وزارة الكهرباء، بل تكون له هيئة وطنية خاصة تحت إشراف سيادى هى «الهيئة المصرية للطاقة النووية» يرأسها عالم مصرى بدرجة نائب رئيس وزراء، بحيث يكون هدف هذه الهيئة هو امتلاك التكنولوجيا النووية وامتلاك المعرفة النووية بكوادر وطنية وللأغراض السلمية لبناء ما نريده من «اقتصاد نووي» يحول حلم مصر النووى إلى واقع، وهو الحلم الذى بدأته مصر فعلياً منذ عام 1954 عندما أنشأت «لجنة الطاقة الذرية المصرية» وعندما قامت روسيا (الاتحاد السوفيتى سابقاً) ببناء أول مفاعل نووى مصرى للأبحاث بأنشاص، والذى تم تشغيله عام 1961، وهو الحلم الذى جرى تحطيمه بعدوان يونيو 1967 وما تلاه من سياسات التبعية والخضوع للهيمنة الأمريكية، وها نحن الآن نسعى لاستعادته.