تقوم المركزيات الثقافية كالمركزية الأوروبية والمركزية الإسلامية على اتجاه فكري مزدوج يتمثل في النظرة إلى الذات والنظرة إلى الغير.
وعادة ما تميل أي مركزية ثقافية إلى إعلاء النظرة إلى الذات من ناحية، والنظرة الدونية الى الآخر من ناحية أخرى.
ولذلك تميل المركزية الأوروبية - كأي مركزية - إلى تضخيم الذات باعتبار الحضارة الأوروبية أسمى من الحضارات الأخرى، وإلى التقليل من قيمة الحضارات الأخرى باعتبارها – تاريخياً - بربرية أو همجية، أو في الوقت الراهن تعتبر متخلفة.
وهكذا تنظر المركزية الأوروبية إلى البلاد الإسلامية باعتبارها متخلفة، لأنها فشلت في اختبار الحداثة من ناحية، ولم تستطع أن تنجز إلا تحديثاً مشوهاً.
وعلي العكس فإن المركزية الإسلامية تتسم بتضخيم الذات باعتبار أن الإسلام هو أسمى من كل الأديان الأخرى، وفي الوقت نفسه هي تنظر بازدراء إلى الحضارة الغربية باعتبار أن قيمها متدهورة. وهذا الازدراء تحول في العقود الأخيرة إلى عداء مستحكم كما تجلى في خطاب الجماعات الجهادية التكفيرية، مثل تنظيم «القاعدة» وتنظيم «داعش» الذي يسعى إلى أسلمة العالم من خلال إعلان «الخلافة الإسلامية» في سورية والعراق.
وإذا كانت هناك كتابات متعددة حللت مختلف أبعاد المركزية الأوروبية ووجهت لها النقد على أساس اتجاهاتها التعصبية، فإن المركزية الإسلامية لم يكتب عنها إلا القليل النادر مع أهميتها الكبرى، لأنها في الواقع هي الجذر الثقافي الذي صيغت على أساسه الأفكار الإسلامية المتطرفة، والتي ترجمت في الواقع بعد ذلك إلى حركات جهادية تكفيرية.
وأهم ما في المركزيات الثقافية على اختلاف أنماطها أنها تكون في الواقع أنساقاً مغلقة تعاني من عقدة الزعم أن أنصارها يمتلكون الحقيقة المطلقة. في حين أن الاتجاهات الثقافية المعاصرة وأبرزها حركة «ما بعد الحداثة» تؤكد على سقوط الأنساق المغلقة أو - بلغة فلاسفتها - «السرديات الكبرى» وبداية عصر «الأنساق المفتوحة» التي تنطلق من أن الحقيقة نسبية من ناحية، وأنه يمكن عن طريقها التأليف الخلاق بين متغيرات كان يظن من قبل أنها متعارضة، مثل الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، والعلمانية والدين، والثقافة العولمية والثقافات المحلية.
وإذا أردنا أن نكوّن فكرة متكاملة عن «المركزية الإسلامية» فلا مناص من الاعتماد الأساسي على كتابات المفكر العربي المعروف الدكتور عبدالله إبراهيم الذي يعتبر في نظري الرائد العلمي الذي استطاع في مشروعه الفكري الكبير «المطابقة والاختلاف: بحث في نقد المركزيات الثقافية» (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004) صوغ نظرية متكاملة تضمنت التحولات التاريخية للمركزية الإسلامية، وأبرزت تناقضاتها الراهنة.
وفي مدخل دراسته التي أعطى لها عنواناً «المركزية الإسلامية: التفاعلات المعاصرة وحدود المفهوم» أرجع نشوء المركزية الإسلامية تاريخياً إلى التفرقة التي أقامها القدماء بين «دار الإسلام» و»دار الحرب». غير أن هذه التفرقة التي استمرت قروناً أخلت سبيلها إلى مفهوم «العالم الإسلامي» الذي يثير مشكلات متعددة باعتبار أننا نعيش في عالم متداخل المصالح والعلاقات والأفكار. وهو عالم تخلص إلى حد كبير من سجالات القرون الوسطى التي يقوم نموذجها الفكري على الثنائيات الضدية، وإن كانت بقايا التفرقة التقليدية بين «دار الإسلام» و»دار الحرب» ما زالت حاضرة، وخصوصاً في الحساسيات العقائدية بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب.
ويمكن القول أن أشباح أفكار الماضي ما زالت ماثلة في خطاب الحاضر الذي يثير إشكاليات الهوية والخصوصية والأصالة. ويقرر الدكتور عبدالله إبراهيم أن المجتمعات الإسلامية تعيش حالياً ازدواجية خطيرة تختلط فيها قيم روحية وقيم مادية ولم تفلح أبداً في فك الاشتباك بينهما على أسس عقلية واضحة، فالقيم الأولى حبيسة النصوص المقدسة وحواشيها، وقد آلت إلى نموذج أخلاقي متعال يمارس نفوذا يوجه الحاضر انطلاقا من الماضي.
أما القيم الثانية فقد غزت الحياة بشتى جوانبها باعتبارها إفرازات مباشرة لنمط العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في العصر الحديث، وبالتحديد بفعل المؤثر الغربي.
هكذا صاغ الدكتور عبدالله إبراهيم بدقة بالغة الإشكالية التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم، وخصوصاً في خطاب التيارات الإسلامية، معتدلة كانت أو متطرفة، برفض الحداثة الغربية باعتبارها مشروعاً حضارياً، ويؤكد على ضرورة الاعتماد على التراث الإسلامي القديم وخصوصاً ضرورة استعادة نظام الخلافة الإسلامية.
ويدل على ذلك أن المشروع السياسي لجماعة «الإخوان المسلمين»، التي انطلقت من رؤيتها للعالم كافة الحركات الإسلامية المتطرفة - والتي تحولت من بعد إلى حركات إرهابية - تتمثل مفرداته في الانقلاب ولو بالعنف على الدول المدنية العربية والإسلامية الراهنة، وإقامة دولة إسلامية بديلة، تكون هي المقدمة الضرورية لاستعادة نظام الخلافة الإسلامية، ومن ثم يصبح المسلمون هم أساتذة العالم.
لا نبالغ لو قلنا أن هذه الفكرة المحورية هي الموجهة للمشاريع السياسية أو الانقلابية للحركات الإسلامية المتطرفة المعاصرة. ومما يؤكد ذلك أن المرشد العام لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر الدكتور محمد بديع قال في تصريح شهير له بعد حصول حزب «الحرية والعدالة» (الإخواني) على الأكثرية في انتخابات مجلسي الشعب والشورى التي أُجريت في مصر: «يبدو أن حلم حسن البنا في استعادة نظام الخلافة الإسلامية قد قارب على التحقق وسنصبح من بعد - كما خطط لذلك - أساتذة العالم».
وإذا كان حكم «الإخوان المسلمين» الديكتاتوري قد أسقطه الانقلاب الشعبي الذي وقع في مصر في 30 حزيران (يونيو) ودعمته القوات المسلحة المصرية، فإن تنظيم «داعش» الإرهابي - مستغلاً في ذلك الأوضاع المضطربة في سورية - أراد أن يختصر الطريق فأعلن قيام دولة «الخلافة الإسلامية» في سورية والعراق، وتمت البيعة لأبي بكر البغدادي باعتباره «خليفة المسلمين»، والذي أخذت جماعات تكفيرية متعددة في بلاد عربية أخرى مثل ليبيا تبايعه وتمشي على خطاه، وأبرزها ارتكاب الجرائم الوحشية والتي تتمثل في قطع رقاب المسلمين والأجانب على السواء.
وحتى تكتمل الصورة فلا بد أن نذكر أن القرن العشرين شاهد نماذج من «المركزيات الثقافية السياسية» - إن صح التعبير- أهمها الماركسية التي ادعت في تطبيقها الواقعي أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، انطلاقاً من الشعور بتضخم الذات والعداء مع الآخر متمثلاً في العالم الرأسمالي.
وشهدنا أيضاً «المركزية الثقافية السياسية الغربية» ممثلة في الرأسمالية التي ادعت بدورها أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، باعتبارها الإيديولوجية السياسية النموذجية التي ستحقق السعادة للبشر من ناحية، والتي بادل أنصارها السوفيات ومن لف لفهم العداء.
ويمكن القول إن الحرب الباردة التي اشتعلت عقب انتصار الحلفاء على دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) في العام 1945 كانت هي المسرح الذي دار على أرضه الصراع العنيف بين الماركسية والرأسمالية.
وقد أدت تطورات الأحداث إلى انهيار الإمبراطورية السوفياتية وسقطت بالتالي دعاوى الماركسية في أفضليتها على الرأسمالية، وظهرت كتب شهيرة أبرزها كتاب فوكوياما عن «نهاية التاريخ» احتفالاً بالانتصار الحاسم على الماركسية. ولكن يشاء دهاء التاريخ أن تقوم أزمة اقتصادية كبرى في الولايات المتحدة الأميركية في العام 2008 مثلت انهياراً كاملاً للنموذج الرأسمالي الكلاسيكي الذي أجبر إدارة الرئيس أوباما على ضخ تريليونات الدولارات لإنقاذ الدولة الأميركية من إعلان إفلاسها.
وقد أكد انهيار النظام الرأسمالي الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي في كتابه الذي حظي بشهرة عالمية وعنوانه «رأس المال»، والذي تنبأ فيه بسقوط الرأسمالية كنظام اقتصادي، ونهاية الديموقراطية كنظام سياسي.
وفي تقديري فإننا سنشهد في السنوات القادمة سقوطاً مدوياً للمركزية الإسلامية بعد أن وصل الإرهاب المعولم إلى منتهاه.