عندما نعرف أن المشروع النووى المصرى بدأ مبكراً فى عام 1954 أى بعد مرور عامين فقط من قيام ثورة 23 يوليو 1952 عندما تم إنشاء «لجنة الطاقة الذرية المصرية»، التى أشرفت على أول مفاعل نووى للأبحاث فى مصر بالتعاون مع الاتحاد السوفيتى (مفاعل أنشاص) والذى بدأ تشغيله عملياً عام 1961
فإن أول سؤال يطرح نفسه علينا هو: لماذا توقفنا كثيراً منذ ذلك العام عن تطوير هذا المشروع الذى سبقت به مصر دولاً نووية مهمة الآن وخاصة «إسرائيل» والهند؟
هذا السؤال ليس من نوع «البكاء على اللبن المسكوب»، ولكنه سؤال فى صميم المستقبل، وبالتحديد مستقبل المشروع النووى المصري، لأن الأسباب التى وقفت حجر عثرة أمام تمكيننا من امتلاك برنامج نووى مصرى متطور للأغراض السلمية ربما تكون مازالت موجودة، وربما تتجدد، ولذلك نحن فى حاجة ماسة إلى دراسة تجربة المشروع النووى المصرى السابقة من أجل استخلاص الدروس، والاعتبار لما هو قادم، كى لا تتكرر تجربة الفشل أو التعثر، لأننا لم نعد نملك ترف الفشل على ضوء ما نواجهه من تحديات تجعل معركة بناء مستقبل مصر معركة حياة أو موت تماماً كما هى معركة الحرب ضد الإرهاب وضد كل مصادر تهديد أمننا الوطنى سواء كانت داخلية أم خارجية.
يكشف لنا الصديق العزيز الأستاذ الدكتور إبراهيم العسيرى خبير الشئون النووية والطاقة وكبير مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية (سابقاً) وأحد المقاتلين البارزين من أجل امتلاك مصر برنامجاً نووياً للأغراض السلمية أن مصر حاولت فى أوائل الستينيات من القرن الماضى إقامة محطة نووية لتوليد الكهرباء (بموقع برج العرب، 30كم غرب الإسكندرية)، وأعدت مواصفات المشروع خلال عام 1964، وطرحت فى مناقصة عالمية مفتوحة، تقدمت لها أربع شركات هى «وستنجهاوس» الأمريكية بعطاء لمحطة من نوع مفاعلات الماء المضغوط، و»جنرال إليكتريك» الأمريكية، وشركة «A.E.G»الألمانية بمحطة من نوع الماء المغلي، وشركة «سيمنس» الألمانية بمحطة من نوع الماء الثقيل». وخشى الغرب وقتها أن يسعى الرئيس جمال عبد الناصر إلى إقامة المحطة النووية مع الاتحاد السوفيتى على غرار ما حدث بالنسبة لبناء السد العالى الذى تحمل الاتحاد السوفيتى مسئولية بنائه بعد تراجع الغرب عن تعهداته ببناء السد عقاباً لمصر على تأميمها قناة السويس والاعتراف بالصين الشعبية وتوقيع أول اتفاقية تسليح للجيش المصرى مع الاتحاد السوفيتى أيضاً (التى عرفت وقتها باسم صفقة الأسلحة التشيكية)، لذلك تقدمت شركة «وستنجهاوس» الأمريكية بعرض لإقامة محطة نووية بقدرة 150 ميجاوات كهرباء فى برج العرب، ومعه عرض آخر بمحطة تحلية مياه البحر بقدرة 20 ألف متر مكعب يومياً، بالإضافة إلى مصنع وقود نووى ومفاعل أبحاث بقدرة 40 ميجاوات حراري.
وصدر بالفعل خطاب النوايا، أو خطاب الاعتزام لشركة وستنجهاوس الأمريكية فى عام 1966، لكن المشروع لم يتم بعد أن خططت الولايات المتحدة ودبرت لعدوان الخامس من يونيو الإسرائيلى ضد مصر عام 1967.
كان عام 1966 هو بداية الغليان فى العلاقات المصرية- الأمريكية، بعد أن فتحت واشنطن أبوابها أمام ليفى أِشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي، وتعاقدت مع الكيان الصهيونى فى صفقات تسليح متطورة شملت أسلحة هجومية خاصة الطائرات والصواريخ، وقفزت بذلك المساعدات العسكرية لإسرائيل لتصبح عشرة أمثال ما كانت عليه عام 1965 حسب تقرير لمجلس الأمن القومى الأمريكى بتاريخ 19 مايو 1966(بلغت 1100 مليون دولار بعد أن كانت 92 مليون دولار عام 1965).
هذا التطور فى الموقف الأمريكى لم يأت فجأة بسبب وجود الرئيس الأمريكى ليندون جونسون على رأس السلطة فى البيت الأبيض، بل كانت له جذوره فى أواخر عهد الرئيس جون كيندى الذى كان قد أرسل مبعوثه الخاص جون ماكلوى للقاء الرئيس جمال عبد الناصر والذى عرض مطالب البيت الأبيض من مصر وكانت تشمل ثلاثة مطالب أساسية أولها وقف البرنامج المصرى لإنتاج الصواريخ، وثانيها الاستغناء عن العالم الألمانى الشهير الدكتور «وولفجانج بيلز» وفريقه البحثى المشرف على برنامج الصواريخ المصرى باعتباره نازياً سابقاً، وأخيراً تمكين الولايات المتحدة من التفتيش على المنشآت النووية فى مصر بما فيها مفاعل أنشاص.
وكان طبيعياً أن يرفض الرئيس جمال عبد الناصر هذه المطالب فقد اعتبرها «تدخلاً فى مسائل من صميم السيادة المصرية» خصوصاً وأن الرئيس كان يعلم بيقين أن الحكومة الإسرائيلية رفضت أن تعطى الولايات المتحدة أية معلومات عن مفاعلها النووى فى «ديمونة».
تطورات الصراع فى المنطقة فى ذلك الوقت وبالذات مع نهاية عام 1966 كشفت أن القرار الأمريكى النهائى هو «الخلاص من ناصر» على حد التعبير الذى استعمله«ديفيد نيس» القائم بالأعمال الأمريكى فى القاهرة وكان واضحاً أيضاً أن الأسلوب الذى انتهى إليه الرئيس الأمريكى ليندون جونسون هو «إطلاق حرية العمل لإسرائيل» وكان عدوان يونيو 1967 هو «قرار الخلاص من الرئيس ناصر». وتجدد الأمل المصرى فى المشروع النووى عام 1971 حيث تقدمت مصر ببحث للمؤتمر الدولى الرابع للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية بجنيف، وشمل البحث دراسة إمكانية إدخال محطات قوى نووية وإدماجها فى الشبكة الكهربائية حتى عام 2000، وتمت صياغة البرنامج النووى المصرى طويل المدى والذى كان يهدف إلى بناء 8 محطات نووية، وبعد حرب أكتوبر 1973 تجدد الأمل فى بناء المشروع النووى مع زيارة الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون لمصر فى يونيو 1974 حيث تم الاتفاق على توريد محطة نووية لمصر بقدرة 600 ميجاوات وتقدمت شركتا وستنجهاوس وجنرال إليكتريك بعطاءاتهما فى فبراير 1975، وتم الاتفاق مع شركة وستنجهاوس ولكن قبل توقيع العقد عام 1978 اشترطت الولايات المتحدة أن يكون لها حق التفتيش على جميع المنشآت والأنشطة النووية المصرية وأى منشآت أخرى لها علاقة بالصناعة النووية، وكان المعنى المباشر هو توقف المشروع.
وتكررت المحاولات فى عهد الرئيس المخلوع حسنى مبارك لبناء محطة نووية فى«الضبعة» غرب الإسكندرية ابتداء من عام 1983 لكن المشروع أخذ يتعثر بضغوط خارجية وتواطؤ داخلى من «لوبى تخريب مصر» بحجج وأسانيد متعددة أبرزها التشكيك فى جدوى المشروع والترويج لخطورته استناداً إلى حادثة مفاعل «تشرنوبل» فى أبريل 1986، والتحذير من مخاطر دفن النفايات، متجاهلين تماما تلك الطفرة الهائلة فى بناء المفاعلات النووية فى كثير من دول العالم.
فالعالم يوجد به الآن 72 محطة نووية تحت الإنشاء على مستوى العالم، كما يوجد 435 محطة نووية تعمل بكفاءة عالية.
العالم كله يتجه نحو الطاقة النووية للأغراض السلمية وهناك من يمتلكون الأسلحة النووية، فكيف لمصر أن تبقى حتى الآن خارج الملعب بالكامل كى تبقى دولة سهلة الانقياد والخضوع للهيمنة.