أكد المصريون بتظاهراتهم غير المسبوقة وثورتهم ضد حكم الإخوان فى 30 يونيو انحيازهم المطلق لخريطة الطريق التى أعلنت يوم 3 يوليو 2013 بمرتكزاتها الثلاثة وأولها الدستور الجديد الذى يعيد الاعتبار مجدداً لأهداف ثورة 25 يناير فى إقامة الدولة العادلة والديمقراطية التى تحقق الحرية والعزة والكرامة لمصر وشعبها
وثانيها الرئيس الجديد المؤمن بهذه الأهداف والمنحاز لها والحريص على تحقيقها، وثالثها البرلمان القادر بتشريعاته على تحويل الثورة إلى دولة للشعب ومصالحه وطموحاته فى الإشراف على السياسة العامة للدولة حتى تكون هذه السياسة وحتى تكون الموازنة العامة للدولة قادرة على تحقيق ما يأمله الشعب ويريده. نجحنا والحمد لله فى وضع الدستور الجديد وإقراره، ونجحنا والحمد لله فى اختيار الرئيس الذى نريده ونثق فيه، لكننا ولأسباب كثيرة نتعثر فى اختبار تأسيس برلمان حقيقى قادر على أن يكون قادراً على تحمل مسئولية تمثيل الشعب والإنابة عنه كطرف أساسى فى معادلة الحكم.
أول أسباب هذا التعثر أن التغيير أو بالتحديد مشوار التغيير الذى بدأ مع ثورة 25 يناير 2011 بإسقاط رأس نظام الطغيان والفساد الذى تحالفت فيه الدولة الأمنية مع طبقة رجال الأعمال الفاسدين، وامتدت إلى مختلف أجهزة الحكم والوزارات والإدارات والمحليات، لم يستطع إسقاط أو اقتلاع بؤر الطغيان والفساد، ولم يستطع الحكم الجديد، بكل أسف، أن ينأى بنفسه كلية عن تحالف الطغيان والفساد، وأن يخرج من «الصندوق الأسود» اللعين الذى تتم من داخله عملية اختيار المرشحين الجدد لتولى المناصب العليا فى الدولة، ولم يستطع اتخاذ خطوة جريئة لعزل كل المسئولين السابقين عن الفساد السياسى والمالى والإدارى على مدى العقود الثلاثة الماضية، وإبعادهم عن السلطة، كما لم يستطع تحت ضغوط الأزمة الاقتصادية إبعاد وعزل رجال الأعمال الفاسدين الذين نهبوا المال العام مدعومين من الدولة وحماية أجهزتها الأمنية من العودة إلى الانخراط فى العملية السياسية، فى تطور خطير ينبئ بوجود مؤشرات حقيقية على عودة كثير من هؤلاء إلى واجهة العمل السياسى ابتداءً من التسرب إلى إعلام رجال الأعمال حلفائهم (محطات تليفزيون وصحف)، وامتداداً إلى التجرؤ فى الترشح لعضوية البرلمان الجديد دون رادع قانونى صلب يحول دون ذلك.
كثير من هؤلاء تخفى وراء موجة الحرب ضد الإخوان وإرهابهم، وحاولوا اختطاف ثورة 30 يونيو وتصويرها على أنها ثورة ضد ما أسموه وروجوا له بـ «انقلاب أو مؤامرة 2011 الإخوانية» ويقصدون «ثورة 25 يناير». وكان سندهم الرئيسى فى ممارسة كل هذا العبث دون رادع أن المشرِّع لم يفعِّل حكم تجريم وحل «الحزب الوطني» بتشريع يمنع قياداته ورموزه (على الأقل الوزراء وأعضاء الأمانة العامة للحزب وأمانة لجنة السياسات، وأعضاء برلمان عام 2010 الفاسد) من المشاركة فى العمل السياسى لدورتين انتخابيتين على الأقل. فما جرى ترويجه من مقولة أنه «لا إقصاء لأى شخص لم يصدر بحقه حكم قضائى يجرمه» أعطى الحماية لكل هؤلاء، وكأن حكم حل وتجريم الحزب الوطنى كان يخص بالتحديد مقار ومنشآت هذا الحزب دون شخوصه وسياساته وتحالفاته، وجاء التبرير الصادر عن اللجنة العليا للانتخابات البرلمانية لمنع أحمد عز الأمين العام السابق للحزب الوطنى من الترشح لعضوية مجلس النواب بمحافظة المنوفية، ليؤكد مدى فداحة الكارثة التى نحن بصددها. فقد أرجع قرار إبعاد ترشيح أحمد عز لسبب محدد هو أنه لم يقدم إقرار الذمة المالية الخاص بالسيدة زوجته، دون إشارة إلى أنه وأمثاله ممنوعون من الترشح باعتبارهم قادة لحزب أفسد الحياة السياسية، وكان هو شخصياً من قاد معركة إفساد انتخابات عام 2010 التى لم يحاسب عليها حتى الآن، وكأن هذه جريمة تسقط بالتقادم أو بالتصالح أو بإعلان حسن النوايا.
كما جاء حكم المحكمة الدستورية ببطلان القانون 202 لسنة 2014 بشأن تقسيم الدوائر الانتخابية لأنه (لم يلتزم بقاعدتى التمثيل العادل للسكان والتمثيل المتكافئ للناخبين) ومن بعده حكم المحكمة الدستورية ببطلان إبعاد هذا القانون مزدوجى الجنسية من المصريين من الترشح لانتخابات مجلس النواب ليؤكد أننا لم نتعلم الدرس بعد ولا نريد أن نتعلمه.
فاللجنة المكلفة من الحكومة بوضع قانون مباشرة الحقوق السياسية وقانون انتخابات مجلس النواب لم تحترم إرادة الشعب فى الدستور بتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص بين كل المواطنين فى مباشرة حقوقهم السياسية، كل ما يشغلهم، على ما يبدو، هو أن يأتى البرلمان الجديد بصفتين أساسيتين أولاهما، أن يكون من الضعف بحيث لا يكون قادراً على أن يكون نداً للسلطة التنفيذية وللرئيس بالتحديد أو بمعنى آخر اختيار برلمان يقف خلف الرئيس حسب تصريح شديد الفجاجة «لبعض من تصدوا لتأسيس قوائم انتخابية زعموا أنها قريبة من الرئيس وتحظى بدعمه». وثانيتهما، أن يكون خالياً من الإخوان. هؤلاء الذين فرضوا علينا نظام «القائمة المغلقة» بكل ما تتصف به من إقصاء معيب لحق نصف الناخبين تقريباً إن يكون لهم من يمثلهم فى البرلمان، والذين أساءوا لعدالة تقسيم الدوائر بين المحافظات حيث انحازوا لمحافظات على حساب غيرها، وانحازوا لدوائر داخل المحافظة الواحدة على حساب دوائر أخرى لم يتعلموا الدرس وإن يتعلموه وبالذات الدرس الذى يقول أن «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة» وإن الطغيان يقود إلى الفساد، وأن المزيد من الفساد يقود للمزيد من الطغيان، وإن المحصلة النهائية هى الطامة الكبرى وهؤلاء تجاهلوا أن السياسة وأصول الحكم تفرض الفصل بين السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، وتحقيق التوازن والتكامل بينها، وعدم تغوِّل إحداها على الأخري.
وإذا كان حكما المحكمة الدستورية العليا المشار إليهما قد كشفا مدى فداحة كارثة قانونى مباشرة الحقوق السياسية ومجلس النواب، فإن أزمة تكوين القوائم الانتخابية قد كشفت هى الأخرى عن مدى فداحة كارثة الحياة الحزبية، ومدى فداحة الآثار السلبية لتدخل أجهزة سيادية وأمنية فى تشكيل القوائم الانتخابية. هذه الأزمة كشفت عن أن معظم الأحزاب لا تملك مرشحين قادرين على المنافسة فلجأت إلى سياسة «غواية وشراء المرشحين» من خارج عضويتها، وكشفت عن ظاهرة «الناخب العابر للأحزاب»، بما ينفى غياب أى التزام أو ولاء حزبي، لكن الأفدح هو انقسام أعضاء الأحزاب بين قوائم متنافسة، وهجران أحزاب لقائمتهم وهرولتهم نحو قائمة زعمت أنها مدعومة من الرئيس.
أيها السادة نريد برلماناً حقيقياً قادراً على أن يحكم بإرادة الشعب وأن يكون شريكاً فى المسئولية مع السلطة التنفيذية وليس تابعاً لها، وهذا ليس انتقاصاً أو تشكيكاً بأى حال فى السلطة التنفيذية. ونريد قوانين تأتى ببرلمان قوى بقوة الرئيس وقوة الدستور لخوض المعارك ضد كل مصادر تهديد أمن واستقرار ومستقبل مصر.
نريد برلماناً خالياً من الفاسدين والمفسدين والطغاة من نظام مبارك بقدر خلوه من الإخوان وأعوانهم، ونريده برلماناً قادراً على منع أى تحالف جديد بين السلطة ورأس المال كى لا يسيطر رأس المال مجدداً على الحكم، نريد أن نتعلم الدرس.. ولو مرة.