يبدو أن المشروع الذى قدمته الحكومة للمؤتمر الاقتصادى الذى انعقد فى شرم الشيخ بشأن إنشاء عاصمة جديدة لمصر سيكون أول المشروعات التى سيتم تنفيذها بعد أن وافقت شركة إماراتية معروفة على أن تتولى بناءها بطريقة تسليم المفتاح. وقد نشر أن تكاليف إنشائها قد تصل إلى 500 مليار جنيه وهو مبلغ بالغ الضخامة، مما يستدعى التساؤل هل انفاق هذا المبلغ على هذا المشروع هو أفضل استثمار ممكن أم أنه من الأفضل توجيه هذه الأموال الطائلة للإنفاق على مشروعات أخرى تشتد حاجة الجماهير العريضة لها، ومن شأنها أن ترفع من نوعية الحياة المتردية التى يعيشونها بعد عقود طويلة من التجاهل والإهمال واللامبالاة، وتوجيه الاستثمارات لصالح طبقة الأثرياء الذين هاجروا من العاصمة القديمة، وانطلقوا فى رحاب «التجمع الخامس» و«القطامية» يبنون القصور والفيللات الباذخة ويقيمون حولها الأسوار حتى يعزلوا أنفسهم عن جموع عوام الناس؟
وقد أحسنت جريدة «المصرى اليوم» حين خصصت صفحة كاملة لمناظرة جادة حول العاصمة الجديدة. وقد قام بالنقد العنيف لهذا المشروع العملاق مؤرخ مقتدر هو الدكتور «خالد فهمى» أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية. ووقف فى طرف مضاد تماما له الدكتور «خالد طرايبه» أستاذ الهندسة المعمارية بنفس الجامعة.
ولنلاحظ ابتداء أن المنتقد للمشروع مؤرخ، وهو بالتالى غير متخصص فى التخطيط العمرانى، فى حين المدافع مهندس معمارى من أهل المهنة.
ولكن لا ينبغى أن يترتب على ذلك الرفض المبدئى لآراء «خالد فهمى» باعتباره غير متخصص، لأن الخبرة تقول إن أداء من هم خارج التخصص قد يكون أكثر صوابا بحكم الخبرة النظرية والرؤية النقدية- من آراء المتخصص الذى قد يبقى حبيس نظرياته والتى قد تحتمل تحيزا مبدئيا لرأى من الآراء.
والسؤال الآن: ما هى أوجه الاعتراضات الأساسية التى وجهها المؤرخ «خالد فهمى» للمشروع؟
وأول نقطة يثيرها هو إذا كان لدينا 500 مليار جنيه وهى التكلفة التقديرية لإنشاء العاصمة الجديدة أليس من الأفضل أن ننفقها على حل مشكلة القاهرة؟
ونحن نعرف جميعا أن «القاهرة» أصبحت تمثل مشكلة كبرى، ولذلك يرى «خالد فهمى» أنه قد يكون من الأفضل حل مشكلات النقل والإسكان والقمامة فى القاهرة، ورصد جزء من تكلفة إقامة العاصمة الجديدة لتطوير العشوائيات التى حرم أهلها منذ خمسين سنة من مياه الشرب النظيفة والرعاية الصحية والهواء النقى والمرافق.
والنقطة الثانية هى هل يجوز أن تشرع الحكومة فى تنفيذ هذا المشروع بغير أن تجرى نقاشا عاما حوله؟ ويقول «خالد فهمى» إنه إذا تأملنا مخطط المشروع كما أعلن عنه فى الموقع الإلكترونى نجد صورا متلألئة لمبانى «ما بعد حداثية» فيها ناطحات سحاب مثل «دبى». والسؤال هنا هل نموذج التنمية الحضرية الذى تم فى «دبى» مناسب للتطبيق فى مصر أخذا فى الاعتبار أن نصيب الفرد فى مصر من الناتج المحلى الإجمالى نحو 8% من مثيله فى الإمارات العربية المتحدة؟
ثم ينتقل «خالد فهمى» إلى إثارة نقطة قد تبدو شكلية مع أنها فى رأيه بالغة الأهمية، وهى أن الحكومة فاجأت الشعب بهذا المشروع فى غيبة البرلمان الذى لم يتشكل بعد، وحتى بغير أن تمهد له وسائل الإعلام.
والسؤال الثانى يتعلق بجدوى بناء مدينة جديدة ستكون مساحتها -حسب ما أعلن- أكبر من مساحة «برازيليا» و«إسلام أباد» و«تشاند بجار» وهى أكبر ثلاث عواصم بنيت من عدم فى العصر الحديث؟
وأهم نقطة آثارها «خالد فهمى» أخيرا هو أنه ينبغى أن تكون لدينا خريطة تنموية متكاملة تتحدد فيها الأولويات حسب حاجات الناس، وليس حسب توافر فرص التمويل الأجنبى.
فى مواجهة هذا النقد الشامل لمشروع العاصمة الجديدة تصدى الدكتور «خالد طرايبة» للدفاع وهو يرى باعتباره متخصصا أن المخطط المقترح للعاصمة الجديدة يستحق أن يدرسه الجمهور جيدا ويخضع للحوار المجتمعى قبل رفضه وهو مازال فى طور الإعداد.
وفى ملاحظة لافتة للنظر قرر أنه «صحيح أن المدن الجديدة مثل القاهرة الجديدة تؤوى فى المقام الأول النخبة ولكنها خلقت من ناحية أخرى عددا من فرص العمل لكثيرين لم يجدوا تلك الفرص فى المدينة القديمة».
وأنا ممن يعترضون بشدة على هذه الصياغة التى يقبلها راضيا الدكتور «خالد طرايبه»، وهى أن هناك مدنا تبنى للنخبة ويقصد طبقة الأثرياء الذين لديهم من المقدرة المالية شراء القصر أو الفيلا بعدة ملايين من الجنيهات، ومعنى ذلك ببساطة إنشاء نظام للعزل الطبقى الاجتماعى سبق لى أن عبرت عنه مرارا «بالمنتجعات هنا والعشوائيات هناك»! ويكفى أن نتجول فى «التجمع الخامس» لندرك أن هذا الحى العمرانى المحتكر لمصلحة الأثرياء أقام مجتمعا منعزلا عن باقى الطبقات، بل إنه فى بعض أجزائه تحيطه الأسوار من كل مكان! أليس فى هذا النمط الحضرى تفرقة مباشرة بين ما يملكون كل شىء ومن لا يملكون شيئا، وحتى أعضاء الطبقة المتوسطة من العلماء والمهندسين والخبراء والذين هم عماد الحياة العامة فى البلاد؟
وقد لفت نظرى بشدة أن دفاع الدكتور «خالد طرايبة» بالرغم من إشارته لنفسه باعتباره مهندسا معماريا ومخططاقد قنع بالاستناد إلى حجج سطحية غير متعمقة لا تستند إلى معرفة عميقة بالمخططات العمرانية الشاملة لمصر والتى سبق لفريق من ألمع خبراء التخطيط المعمارى المصريين أن صاغوها. وفى مقدمتها المخطط الشامل الذى أشرف عليه الدكتور «فتحى البرادعى» وزير الإسكان السابق وأستاذ التخطيط العمرانى فى جامعة عين شمس.
وقد أتيح لى التعرف على هذا التخطيط العمرانى لمصر فى الخمسين عاما القادمة بعد أن دعانى الدكتور «البرادعى» مع عدد من رجال الإعلام وأمضينا فى وزارة الإسكان يوما كاملا تم فيه عرض المشروع، كما أن وزارة الإسكان كلفت المخطط المعمارى المعروف الدكتور «أبو زيد راجح» بالصياغة النهائية لمخطط معمارى شامل لمصر. وقد دعوناه لجلسة علمية فى «المركز العربى للبحوث» عرض فيها المخطط، ونستعد لإقامة ندوة علمية شاملة بعنوان «نحو رؤية استراتيجية لمصر» نعرض فيها الرؤى الاستراتيجية العالمية، بالإضافة إلى بعض الرؤى الاستراتيجية المتحدة فى ماليزيا وإيران وتركيا.
بعبارة مختصرة الحكم على سلامة القرار بإنشاء عاصمة جديدة لمصر يتوقف على السؤال المحورى: هل لدينا خطة تنموية شاملة يعد هذا المشروع أحد أبعادها؟ وهل هذه الخطة التنموية قد صيغت فى إطار رؤية استراتيجية تأخذ فى اعتبارها تحولات النظام العالمى من عالم أحادى القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب، ومن مجتمع المعلومات العالمى إلى مجتمع المعرفة؟
هذه هى الأسئلة التى ينبغى إثارتها فى المقام الأول.