كتبتُ المقالة الأولى عن الثورة الأولى من ثورات الربيع العربي، وقبل أن يطلق هذا الاسم على الهبات الثورية التي تلاحقت في بلدان عربية متعددة، ونشرتها في جريدة الأهرام يوم 27 كانون الثاني (يناير) عن الهبّة الجماهيرية التونسية.
لم تكن الصورة واضحة تماماً. حادث فردي منعزل يتمثل في حرق شاب تونسي مكافح نفسَه (بوعزيزي) احتجاجاً على التعامل الخشن للشرطة معه. ثم بعد ذلك احتجاجات وتظاهرات في مدن تونسية متعددة، انتهت بتظاهرة كبرى في العاصمة أجبرت الرئيس السابق «بن علي» على الفرار من البلاد!
المقالةُ الأولى عن الثورة التونسية كتبتها قبل اندلاع الهبّة الجماهيرية المصرية في 25 كانون الثاني 2011 وإن كانت نُشرت يوم 27 يناير. أخذتنا المفاجأة ليس فقط كباحثين سياسيين ولكن كمواطنين عاديين. لم نتوقع إطلاقاً أن تتحول تظاهرة احتجاجية محدودة العدد نظمها عددٌ من الناشطين السياسيين من خلال «التشبيك» على «فايسبوك» إلى هبّة جماهيرية كبرى شارك فيها ملايين المصريات والمصريين الذين ازدحم بهم ميدان التحرير. تعالت الهتافات ضد الرئيس السابق «مبارك»، وما لبثت أن تصاعدت ليصبح الشعار الرئيسي الذي ذاع بعد ذلك في طول العالم العربي وعرضه «الشعب يريد إسقاط النظام». والغريب بالفعل أن هذا النظام السياسي المصري التسلطي العتيد سقط فعلاً بعد ثمانية عشر يوماً مجيداً سجلت حدثاً تاريخياً نادراً في تاريخ البشرية.
كان عنوان مقالتي الأولى عن الثورة التونسية «أسئلة الثورة المستمرة»، وقلت فيها إن يوم وقوع الثورة، أي ثورة، بالغ الأهمية، غير أن «اليوم التالي» للثورة ليس أقل أهمية، بل قد يفوقه في الأهمية!
والمنطق هنا في هذا الحكم القاطع أن إسقاط النظم السياسية من طريق انقلاب أو ثورة قد يبدو ممكناً، مع الوضع في الاعتبار مرور بلد ما بفترة اختمار ثوري تتصاعد فيها موجات السخط على الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي. غير أن أصعب من إسقاط النظام السياسي، أياً كان شمولياً أو سلطوياً، هو بناء نظام سياسي جديد يشبع الطموحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمن قاموا بالثورة.
غير أنه قبل بناء هذا النظام السياسي الجديد، والذي يحتاج إلى رؤية صافية عن المستقبلات الممكنة، كيف تمكن مواجهة التحديات السياسية العظمى التي لا بد من أن تظهر بعد هدم النظام القديم؟
ونقصد على وجه التحديد ما هي طبيعة القوى السياسية التي ستهيمن على المشهد، وتقود مسيرة التحول الديموقراطي؟ وهل هي القوى الثورية الشبابية الحية الفوارة بالآمال والمطامح، أم هي القوى السياسية التقليدية التي تستطيع بخبراتها المتراكمة في الحقل السياسي هي التي في النهاية ستسرق الثورة بعد أن تركب قطارها المندفع، وسواء كان ذلك نتيجة انتخابات ديموقراطية شكلية أو نتيجة انقلابات سياسية؟
هذا سؤال محوري في الواقع. ولعلنا لو حللنا المشهد السياسي في كل من تونس ومصر بعد الثورة نستطيع الإجابة عن السؤال. أولاً في كلٍّ من تونس ومصر من أشعل فتيل الثورة هم جموع غير منظمة من الناشطين السياسيين الذين يفتقرون إلى تنظيم سياسي في شكل حزب أو جماعة لها علاقة وثيقة بالشارع. لذلك، حين بدأت المرحلة الانتقالية في تونس بعد الثورة تقرر تشكيل مجلس انتقالي بالانتخاب، وفوجئ المجتمع السياسي أن حزب «النهضة» الديني هو الذي حصل على الغالبية!
كان يمكن تونس أن تمر في مسار صراعي بالغ الخطورة لو كان حزب «النهضة» احتكر المناصب الرئيسية في الدولة وأقصى باقي القوى السياسية ليبرالية كانت أو علمانية أو شبابية. غير أن حكمة الشيخ «راشد الغنوشي» رئيس الحزب، جنبت تونس الصراع السياسي الدموي الذي كان يمكن بكل بساطة أن يتحول إلى حرب أهلية، لأنه وزع المناصب الكبرى لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس المجلس الانتقالي، على مختلف الأحزاب النافذة، ما سمح للمرحلة أن تبدأ بنوع من التوافق السياسي. وإذا كانت حدثت بعد ذلك أزمات سياسية في المسيرة، خصوصاً ما يتعلق باتجاهات وضع الدستور، إلا أن المرونة السياسية سمحت لقيادات حزب النهضة بتجاوزها لأنها ضحت ببعض اتجاهاته الأيديولوجية الدينية في سبيل تحقيق التوافق السياسي.
وهذا الاتجاه المحمود نفسه برز بعد تنظيم انتخابات رئاسة الجمهورية، لأن حزب النهضة، بناء على حسابات عقلانية، لم يشأ أن يقدم مرشحاً من الحزب. وهكذا أدت الانتخابات إلى نجاح الرئيس «السبسي» رئيس حزب «نداء تونس» وهو حزب علماني.
المثير أن الشيخ «راشد الغنوشي»، بروح ديموقراطية، أرسل تهنئة لرئيس الجمهورية المنتخب لامه عليها بشدة الداعية المصري «الإخواني» المتشدد «وجدي غنيم» والذي أذاع تسجيلاً له يقول له فيه كيف تهنئ «السبسي» وهو علماني كافر؟! هكذا يتكشف التخلف الفكري والتطرف الديني لجماعة «الإخوان المسلمين» الذي أوردهم موارد التهلكة، وأدى إلى الانقلاب الشعبي للجماهير المصرية ضد حكمهم الديكتاتوري.
استطاعت تونس بنجاح ديموقراطي مبهر أن تجتاز التحديات السياسية لليوم التالي للثورة، وبقى أن تواجه التحديات التنموية.
ولكن ماذا عن حالة مصر؟ كان اليوم التالي للثورة بعد تنحي الرئيس السابق «مبارك» وتسليمه السلطة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بداية اضطراب بالغ في المشهد السياسي المصري.
فقد شهدت مصر تظاهرات مليونية قادتها جماعة «الإخوان المسلمين» في مواجهة تظاهرات مليونية أخرى قادها الليبراليون، ما كشف عن انقسام ثقافي بالغ الخطورة.
ولم تستطع جماعة «الإخوان المسلمين» أن تنجح في إدارة شيء من البلاد، بعد أن استولت على مطلق السلطة في مصر عبر انتخابات برلمانية مشوبة بالتزوير الاجتماعي وخلط الدين بالسياسة وانتخابات رئاسية تحت تهديد الجماعة «بحرق مصر» إن لم تعلن اللجنة العليا للانتخابات فوز الدكتور «محمد مرسي» مرشح الجماعة على المنافس الفريق «أحمد شفيق» لأن الفارق بينهما كان ضئيلاً لا يُذكر.
وهناك يقين لدى بعض المراقبين السياسيين أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة خضع بالفعل للابتزاز «الإخواني»، وأعلنت اللجنة العليا فوز «محمد مرسي»، ما أدى إلى نزول أنصار الجماعة إلى الميادين والشوارع في احتفالات صاخبة بعد أن ظنوا وهماً أن ذلك في ذاته فيه إعلان عن تأسيس الدولة الدينية في مصر على أنقاض الدولة المدنية. وأكد هذا تصريح شهير للدكتور «محمد بديع» المرشد السابق لـ «الإخوان المسلمين» بعد حصول حزب الحرية والعدالة «الإخواني» على الأكثرية في البرلمان حين قال: «يبدو أن حلم حسن البنا في استرداد الخلافة قارب على التحقق».
لم يدرك الرجل، لا هو ولا جماعته أنه من العسير للغاية تغيير هوية المجتمع أو تفكيك بناء الدولة في مصر بهذه السهولة، وكأن الميدان خلا إلا من تنظيمات جماعة «الإخوان المسلمين».
هكذا، على عكس تونس التي مرت بسلاسة في مرحلة التحول من السلطوية إلى الديموقراطية تعثرت مصر تعثراً شديداً إلى أن أسقط الشعب الحكم «الإخواني» في 30 حزيران (يونيو) وأعلن «السيسي» الذي كان في هذا الوقت وزيراً للدفاع، خريطة الطريق التي نفذت منها خطوتان وهما وضع دستور جديد وانتخاب رئيس للجمهورية، وبقي الاستحقاق الثالث وهو انتخاب البرلمان.
غير أنه يمكن القول أن تونس وإن كانت استطاعت أن تصل إلى بر الأمان الديموقراطي، فإن التحديات التنموية الكبرى تنتظرها وتلتمس الحلول الفعالة.
وكذلك الحال في مصر. فبعد الانتخابات البرلمانية سيرتفع سؤال الجماهير ماذا تحقق من أهداف ثورة كانون الثاني سواء على مستوى الحريات السياسية أو في مجال العدالة الاجتماعية؟
ويمكن القول بكلمة واحدة انه مهما كانت التحديات السياسية في اليوم التالي للثورة، فسيبقى النجاح في مواجهة التحديات التنموية هو الفاصل في تحديد مآل كل من ثورة تونس وثورة مصر.
* كاتب مصري