أستعير عنوان هذا المقال من الكتاب البالغ الأهمية الذى أصدره عن الدار المصرية اللبنانية أخيرا عالم السياسة المقارنة المرموق الدكتور«على الدين هلال» العميد السابق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وأستاذ علم السياسة المتفرغ بنفس الكلية، وذلك بالاشتراك مع الدكتورة «مىّ مجيب» والدكتور «مازن حسن».والدكتور «على الدين هلال» أسهم بجهده العلمى الموفور بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة ماكجيل بكندا فى تدعيم الجهود العلمية لمراكز أبحاث متعددة، وعلى رأسها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، حيث أسهم فى تدريب وصقل مواهب عشرات الباحثين، وبعد ذلك أسس فى جامعة القاهرة مركز البحوث الاستراتيجية، وأقام علاقة تعاون علمى دقيق بينه وبين مركز الأهرام العتيد.
وقد استطاع الدكتور «هلال» عبر سنوات طويلة تأسيس مدرسة علمية بارزة لدراسة «النظام السياسى المصرى» وأشرف على العشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه.
وها هو اليوم وقد عاد أستاذا متفرغا بعد أن أصدر فى عام 2013 كتابا بعنوان »الصراع من أجل نظام سياسى جديد.. مصر بعد الثورة« مع زميليه، يستكمل البحث بكتابه الجديد »عودة الدولة« وهو يوثق فيه بدقة ويحلل مختلف الظواهر السياسية المعقدة التى سادت فى مصر بعد ثورة 25 يناير.
وحين أهدانى الدكتور «هلال» نسخة من الكتاب تذكرت أنه نشر لى فى مجلة «الديمقراطية» أخيرا مقال بعنوان «أفول الدولة العربية المعاصرة: الدولة المصرية نموذجا» تعقبت فيه نشأة الدولة المصرية منذ عصر «محمد على» وركزت على المراحل المتعددة التى مرت فيها صعودا وهبوطا إلى أن وصلنا إلى 30 يونيو.
وقد ميزت بين مرحلة تأسيس الدولة التى قامت على أساس ثلاثة مشاريع متمايزة وهى المشروع الإمبراطورى الذى صاغه «محمد على» (1805-1848) والمشروع الحضارى الذى وضع أسسه الخديو «إسماعيل» ( 1863-1879) وأخيرا المشروع الليبرالى (1924 1952) والذى كان ثمرة ثورة 1919.
ويعد ذلك تحدثت عن مرحلة «تحديث الدولة» (المشروع القومى 1952-1970) ثم مرحلة تشويه الدولة والتى تتمثل فى عملية التغيير الاقتصادى لمذهب الدولة من الاشتراكية إلى الرأسمالية، وفتح الباب أمام الانفتاح الاقتصادى الذى فكك المجتمع وذلك فى عصر الرئيس «السادات (1970-1981) إلى أن وصلنا بعد ثورة 25 يناير إلى مرحلة تفكيك الدولة.
كانت هذه الدراسة فى الواقع مسحًا تاريخيا سريعا لمراحل تأسيس وتحولات الدولة المصرية غير أن كتاب الدكتور «هلال» يمثل فى الواقع دراسة حالة متعمقة لظاهرة عودة الدولة بعد 30 يونيو.
ولذلك يقسم الكتاب إلى تسعة فصول مترابطة. الفصل الأول والثانى خبرة التاريخ وهو أشبه بخلفية تاريخية لتطور المؤسسات السياسية (1952-2013) والفصل الثالث عنوانه «من الغلبة إلى التوافق: وضع دستور 2014». والعنوان له دلالة بالغة لأن جماعة الإخوان المسلمين التى رفعت شعار «مشاركة لا مغالبة» سرعان بعدما هيمنت على المفاصل السياسية الرئيسية للنظام السياسى المصرى أن قلبت المعادلة وأصبحت «مغالبة لا مشاركة»، وهكذا أرادت الهيمنة على عملية وضع دستور جديد للبلاد، وكتاب الدكتور «هلال» يرصد بدقة علمية الانتقال من الغلبة إلى التوافق فى دستور 2014 وأهمية ذلك أن التوافق السياسى هو جوهر الديمقراطية الصحيحة التى لا تقبل إقصاء جميع الأطراف السياسية وهيمنة فصيل سياسى مفرد على وضع اتجاهات الدستور الجديد.
غير أن الدكتور «هلال» وزملاءه التفتوا بدقة إلى مظاهر الضعف الشديد فى المشهد بعد 30 يونيو والذى يتمثل فى التشرذم السياسى الواسع المدى، حيث تشكل أكثر من خمسين حزبا وتكونت مئات الائتلافات الثورية وغالبيتها العظمى ليست لديها قواعد جماهيرية.
كما كشف عن هشاشة المشهد السياسى فشل جميع التحالفات الحزبية التى أسست استعدادا لخوض معركة البرلمان القادم.
ولكن فى المشهد السياسى أيضا ملامح جديدة أبرزها تراجع دور الحركات الاحتجاجية والتى لعبت أدوارا رئيسية بعد ثورة 25 يناير حيث اختلطت الثورة بالفوضى، وبذلت محاولات لهدم مؤسسات الدولة.
وفى وصف المشهد السياسى الراهن بعد انتخاب الرئيس «السيسى» رئيسا للجمهورية عنى الكتاب بدراسة ظاهرة التشريع فى غياب البرلمان والتركيز على استخدام السلطة التشريعية فى فترة الرئيس «السيسى» مع مناقشة رصينة للجدل حول حدود استخدام الرئيس للسلطة التشريعية. ولا شك أن أحد الملامح البارزة لدستور عام 2014 أنه قلص إلى حد ما من السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية، وأجرى نوعا من تقاسم السلطة بين الرئاسة ومجلس الوزراء.
والواقع أن هذا موقف دستورى جديد تمام الجدة لم يمر به النظام السياسى المصرى منذ ثورة 23 يوليو 1952.
ومن هنا فإن المواطنين السياسيين متلهفون فى الواقع لمعرفة كيف ستطبق نصوص الدستور فى هذا المقام.
وهل يمكن أن ينشأ صراع بين الرئيس والبرلمان؟
ومن ناحية أخرى هل سيستطيع البرلمان أن يؤدى الوظائف المنوط بها فى الدستور بكفاءة وفى ضوء توافق سياسى فعال، أم أن شرط ذلك هو انتخاب برلمان متجانس إلى حد كبير وخريطته السياسية واضحة وجلية؟ ومما يحسب لكتاب »عودة الدولة« اهتمامه بالسلطة القضائية لأنه يناقش فى فصله الثانى مسألة بالغة الأهمية دار حولها الجدل، وهى هل حدث حقا تحول من المهنية إلى التسييس فى قيام السلطة القضائية بدورها وخصوصا بعد ثورة 25 يناير؟
والفصل يناقش بشفافية المواجهة بين السلطتين التنفيذية والقضائية فى عهد الرئيس المعزول »مرسى«، ومواجهة العنف والتفكيك القانونى لأدوات تنظيم الإخوان، وأخيرا ناقش الأزمات داخل الهيئة القضائية.
وقد كان الفصل التاسع والأخير إشارة جلية لمشكلات ما أطلقنا عليه من قبل «اليوم التالى للثورة». وقد قلنا إن الثورة أى ثورة- لابد أن تهدم النظام السياسى الذى ثارت فى مواجهته، ولكن أهم من ذلك كله كيف ستواجه الثورة إشباع مطالب واحتياجات الجماهير؟
لقد كانت شعارات ثورة 25 يناير «خبز وحرية وكرامة»، ويقتضى تحقيق هذه الأهداف المشروعة سياسات عامة جديدة من شأنها مواجهة المشكلات الهيكلية المتراكمة بعد ثلاثين عاما من حكم الرئيس السابق «مبارك».
ولذلك يطرح الكتاب أخيرا بذكاء كيف يمكن وضع سياسات عامة جيدة تأخذ فى اعتبارها مطامح الثورة من ناحية، وتعبر عن الآمال الشعبية فى الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية من ناحية أخرى. كتاب عودة الدولة إضافة قيمة لتراث علم السياسة فى مصر.