أشباح الاستقطابات الإقليمية عادت مجددا إلى إقليم الشرق الأوسط بعد أن توارت عقب انتهاء الحرب الباردة، لكن خطورة هذه العودة الجديدة للاستقطابات ترجع إلى أنها ليست قائمة فقط على صراع وتنافس القوى الدولية على نحو ما كان أيام الحرب الباردة خاصة التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، لكنها تتفجر أيضاً بسبب تنافس قوى إقليمية طامعة فى الهيمنة والسيطرة على إقليم الشرق الأوسط وفى القلب منه وطننا العربى.
مساعى الاستقطاب هذه تقف خلفها عوامل وأسباب كثيرة أبرزها عودة التنافس الروسى- الأمريكى مجددا حول مناطق النفوذ فى الشرق الأوسط حماية لمصالح وأهداف عليا واستراتيجية للبلدين، وظهور إيران كقوة إقليمية قادرة على التحدى والصراع مع إسرائيل الحريصة على أن تفرض نفسها قوة إقليمية مهيمنة، إضافة إلى ثلاثة أحداث بارزة هى التى تحفز وتدفع نحو تلك الاستقطابات؛ أولها، نجاح إيران فى امتلاك برنامج نووى معترف به دوليا رغم أنف إسرائيل الأمر الذى قد يحدث اختلالا فى توازن القوى الإقليمى ويحفز إيران نحو التوسع فى تمديد نفوذها على حساب ما تعتقده إسرائيل مجالا حيوياً لأمنها القومي. وثانيها، نجاح السعودية فى شن حرب «عاصفة الحزم» ضد حلفاء إيران الحوثيين فى اليمن، الأمر الذى شكل اختباراً صعباً لحقيقة كون إيران باتت قوة إقليمية مسيطرة. وثالثها قرار الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بيع إيران صفقة من صواريخ اس 300 المضادة للطائرات. اللافت فى تبرير بوتين بيع إيران هذه الصواريخ التى فجرت موجة غضب إسرائيلية عاتية قوله أن «بيع هذه الصواريخ الدفاعية سيشكل عامل ردع فى المنطقة لاسيما على خلفية الأحداث فى اليمن وأنها لا تمثل تهديدا لإسرائيل على الإطلاق لأنها أسلحة تحمل طابعا دفاعياً بحتا». ما يعنى أن دول الخليج العربية هى المستهدفة من هذه الصواريخ وليست إسرائيل. هذه التطورات والأحداث كانت لها تداعياتها المتلاحقة على صعيد إطلاق موجة جديدة من سباق التسلح الإقليمى وعلى صعيد فرض استقطابات جديدة بين القوى الإقليمية.
فقد اعتبر الجنرال الإسرائيلى المتقاعد «أساف أجمون» رئيس معهد فيشر للدراسات الاستراتيجية أن الجيش وسلاح الجو الإسرائيلى سيضطران إلى تطوير نظرية حربية حديثة واستثمار كثير من الأموال فى التدريبات والتزود بأنظمة متطورة من التسليح نظراً لأن هذه الصواريخ لا تشكل تهديدا للطائرات الهجومية فحسب، بل أنها ستزود إيران بالحماية ضد صواريخ أرض- أرض بعيدة المدى والصواريخ الموجهة.
وإذا كان مجلس الأمن الفيدرالى الألمانى كان قد وافق، قبل أيام فقط من إعلان الرئيس بوتين قراره بيع إيران «صواريخ اس 300» على تسليم إسرائيل الغواصة الخامسة من طراز «دولفين» القادرة على حمل صواريخ نووية ضمن الصفقة التى تضم ست غواصات من هذا الطراز، فإن الولايات المتحدة، قررت ضمن حرصها على احتواء الغضب الإسرائيلى من الاتفاق النووى مع إيران، بيع إسرائيل 14 طائرة إضافية من طراز «اف 35» فائقة التطور إضافة إلى 19 طائرة سبق التعاقد عليها مع إسرائيل من هذا الطراز. الإفصاح عن هذه الصفقة جاء على لسان جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكى ضمن مشاركته فى احتفالية بواشنطن بذكرى قيام إسرائيل عندما قال «سنسلم إسرائيل العام القادم المقاتلة جونيت سترايك فايتر اف 35، أروع ما لدينا وهو ما سيجعل إسرائيل الدولة الوحيدة فى الشرق الأوسط التى تمتلك هذه المقاتلة التى تنتمى إلى الجيل الخامس».
سباق تسلح سوف يفاقم من مخاطر موجة الاستقطاب الإقليمى التى أخذت تفرض نفسها وتتعمق فى ظل ما يشهده إقليم الشرق الأوسط من صراعات متعددة المستويات، وهى الصراعات التى أخذت تفرض ثلاثة أنماط من الاستقطابات؛ الأول، هو نمط الاستقطاب الطائفى فى ظل ما يروج له الإعلام الأمريكى والإسرائيلى بكثافة من «عرب سنة» تقودهم السعودية و«عرب شيعة» تقودهم إيران، والثانى هو نمط الاستقطاب الإقليمى بين محور حليف لإسرائيل وآخر حليف لإيران فى ظل إعلان الرئيس الأمريكى فى حواره منذ أسبوعين مع الصحفى توماس فريدمان أنه يرى فى الخليج قوتين أساسيتين متنافستين هما: إيران وإسرائيل. طرح هذا القول قد يتضمن وضع العرب بين خيار إسرائيل أم إيران، وهنا يكون هذا الاستقطاب هو الوجه الآخر لاستقطاب العرب السنة والعرب الشيعة، وهذا يدفعنا إلى التمعن فى قول موشى يعالون وزير الحرب الإسرائيلى بأن «تل أبيب تراهن على التعاون المستقبلى مع المحور السنى» وقوله أن «إسرائيل لديها أعداء مشتركون مع هذه الدول مثل جماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات الجهادية» إضافة إلى ما سماه «المحور الشيعى»، لكن هناك استقطابا ثالثا عالميا أخذ يفرض نفسه بين واشنطن وموسكو فى إطار حرص كل منهما على استعادة وتثبيت النفوذ فى الإقليم.
إسرائيل هى الطرف الأبرز فى تغذية هذه الاستقطابات المتداخلة التى تلعب فيها كل من إسرائيل وإيران إضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا الأدوار الأساسية المتنافسة وبالتحديد على رقعة «وطن العرب».
فإسرائيل تراهن على أن يدفع الاتفاق النووى الإيرانى إلى إعادة صياغة تحالفات بينها وبين العديد من الدول العربية وعلى رأسها السعودية، انطلاقاً من وحدة الرؤية والموقف والأهداف على قاعدة «التهديد الإيرانى» المشترك. وعلى هذه الخلفية رأى بنيامين نيتانياهو فى احتفالية بذكرى المحرقة النازية أن «الشراكة القائمة مع جزء غير قليل من جيراننا الذين يشاركوننا فى رصد التهديدات ستكون أساساً للشراكة الرامية إلى خلق مستقبل أفضل وأكثر أمنا وطمأنينة فى منطقتنا». ولمزيد من إغراء العرب بهذه الشراكة قال نتنياهو إن «إيران تسلك مسارين، الأول تطوير قدرة الحصول على السلاح النووى وإنشاء ترسانة من الصواريخ البالستية، والثانى تصدير الثورة الخمينية إلى بلدان كثيرة من خلال الاستخدام المكثف للإرهاب واحتلال مناطق واسعة من الشرق الأوسط». وفى ذات الوقت تسعى إسرائيل جاهدة للحيلولة دون حدوث تحالف أمريكى مع إيران، والضغط على الولايات المتحدة لأن يتضمن الاتفاق النووى النهائى مع إيران اعترافاً إيرانياً بحق إسرائيل فى الوجود وإذا كانت إسرائيل هى أبرز من يغذى هذه الاستقطابات فإن إيران هى المستفيد الأول منها. فهى تراقب أخطاء دول عربية عديدة
ضد المكون الشيعى لشعبها وهى أخطاء تجعل من إيران الظهير والسند الأساسى لتوفير الحماية والأمن لهذه المكونات. هذه الأخطاء تغذى الاستقطاب السُنى الشيعى، الذى تتلقفه إسرائيل وتغذيه لتحويله إلى صراع إيرانى إسرائيلى بين «عرب سنة» و«عرب شيعة».
أين نحن من هذا كله؟