نظم المعهد الفرنسى بالقاهرة بالاشتراك مع المجلس الأعلى للثقافة ندوة هامة يوم الاثنين 11 مايو 2015 موضوعها «الدولة فى إطار العولمة: إعادة تشكيل نماذج الدولة فى عالم مفتوح» وقد شارك فى الندوة علماء اجتماعيون فرنسيون بارزون على رأسهم البروفيسور «جان لوكا» شيخ علماء السياسة الفرنسيين مع عدد آخر من الباحثين المرموقين. كما شارك عدد من كبار علماء الاجتماع والسياسة المصريين. وقد دعيت للاشتراك فى الندوة وقدمت بحثا عنوانه «أفول الدولة العربية المعاصرة: مصر نموذجاً».
والواقع أن إشكالية الدولة المعاصرة على مستوى العالم- تحتاج إلى بحث متعمق يحيطه بكل أبعادها المتعددة.
وفى تقديرنا أن نقطة البداية هى تآكل سيادة الدولة المعاصرة نتيجة آثار العولمة بجوانبها الدولية والسياسية والاقتصادية والثقافية.
وهكذا يمكن القول أن الدولة الوستــاليا (نسبة إلى معاهدة وستــاليا الشهيرة) التى أسست لنموذج الدولة الحديثة على أساس سيادتها المطلقة على إقليمها مما يكفل لها استقلالها فى صنع قرارات السياسة الخارجية والداخلية، قد انتهت معالمها بعد أن ظهرت الاتحادات الإقليمية الكبرى مثل «الاتحاد الأوروبي» والتى حدت بحسب دستورها من السيادة المطلقة للدولة، وأصبح القرار يتخذ جماعيا فى مجلس إدارة الاتحاد. وإذا أضفنا إلى ذلك التأثيرات العميقة للعولمة على العالم المعاصر وخصوصا انطلاق الثورة الاتصالية الكبرى وانفتاح الأسواق فى العالم بلا حدود ولا قيود، وتصاعد تأثيرات العولمة الثقافية على المجتمعات المحلية وتشكل وعى كونى عالمي، بحكم تسارع الأحداث الدولية وإمكانية مشاهدتها على الشاشات التليفزيونية فى الوقت الواقعى لحدوثها Real Time - لأدركنا أن السياسات الداخلية لدولة ما سواء كانت كبرى أم صغرى لابد أن تتأثر بالأحداث العالمية.
غير أننا لو ولينا وجوهنا إلى الدولة العربية المعاصرة لأدركنا أنها تتمتع بخصوصية تاريخية محددة، بحكم أن الدول العربية فى مجملها كانت تندرج ضمن إطار الإمبراطورية العثمانية، ولذلك كان الباحث الفرنسى الإيرانى الأصل «برتراند بادي» موفقا فى كتابه الشهير وعنوانه «الدولتان»، حين عقد مقارنة هامة بين الدولة الغربية والدولة الإسلامية.
غير أنه يمكن القول أن نقطة الانقطاع التاريخية فى مسار الدولة العربية المعاصرة هى حصول غالبية الدول العربية على استقلالها الوطنى فى الخمسينيات بعد أن استقلت مصر عام 1954بناء على اتفاقية الجلاء التى أبرمها «جمال عبد الناصر» مع إنجلترا، وحصول «الجزائر» على استقلالها بعد معركتها المجيدة ضد الاستعمار الاستيطانى الفرنسي، وحصول «تونس» على استقلالها بعد النضال الوطنى «للحبيب بورقيبة» وزملائه، وحصول «المغرب» على استقلاله بقيادة الملك «محمد الخامس»، ونهاية الاحتلال الإنجليزى «للعراق» وانتهاء لنظم الوصاية والانتداب فى «سوريا ولبنان».
وهكذا نشأت الدولة العربية الوطنية المستقلة والتى إلى -حد كبير هجرت خطاب النهضة بتركيزه على الحريات المختلقة ومن بينها الحرية السياسية وحرية التفكير والتعبير، وأكدت أن التنمية -حتى لو تعارضت مع الحرية السياسية- لها الأولوية العظمى للقضاء على التخلف.
وهذه المسيرة التى رسمت ملامحها البارزة تنطبق على «مصر» والتى قام فيها الانقلاب العسكرى فى 23 يوليو 1952 بقيادة «جمال عبد الناصر» زعيم الضباط الأحرار، والذى سرعان ما تحول إلى «ثورة» بحكم تبنى قادة الانقلاب للمشروع الإصلاحى والذى صاغته القوى الوطنية المصرية منذ أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
غير أن هذا المشروع القومى وصل إلى منتهاه فى هزيمة يونيو 1967، بعد أن تبين أيضا أن العدالة الاجتماعية لا تصلح كجناح أوحد للمسيرة المجتمعية، ولكن لابد من استكمالها بجناح آخر هو الديمقراطية.
وهكذا تتابعت مراحل تطور الدولة المصرية التى أسسها «محمد على الكبير» (1805-1848) والذى أسس «مشروعا إمبراطوريا» تولت الدول الاستعمارية القضاء عليه فى مهده، ثم جاء «المشروع الحضاري» الذى خططه ونفذه الخديو «إسماعيل» (1863-1879) وتبعه المشروع الليبرالى الذى أعقب ثورة 1919 حين تم وضع الدستور عام 1923 واستمر هذا المشروع حتى 23 يوليو 1952.
وقام بعد ذلك المشروع الناصرى القومى الذى أشرنا إليه والذى استمر من 1952 حتى 1970 تاريخ وفاة «جمال عبد الناصر».
ويمكن القول إن التغيرات الكبرى التى لحقت بالدولة والمجتمع فى مصر بدأت بعد نهاية حرب أكتوبر 1973 والتى قادها ببراعة استراتيجية الرئيس «أنور السادات»، وذلك حين تحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية بطريقة فوضوية أدت إلى شرخ عميق فى العلاقة بين الدولة والمجتمع، واتسع هذا الشرخ فى عهد الرئيس السابق «مبارك» والذى تحولت فيه الدولة المصرية إلى نظام سلطوى كامل، مما أوجد فجوة عميقة بينها وبين المجتمع وهو الذى أدى من بعد إلى ثورة 25 يناير.
جاءت الثورة تعبيرا عن سخط جماهيرى هائل بعد أن نهبت القلة من أهل السلطة ورجال الأعمال موارد البلاد وثرواتها، وخرجوا إلى أطراف القاهرة يبنون قصورهم الفاخرة بأموال الشعب التى استحلوها لأنفسهم، وظنوا أنهم إذا أقاموا الأسوار حول قصورهم فإن «الغوغاء» لن يستطيعوا الوصول إليهم، غير أنه خاب فألهم بعد أن قامت الثورة فعلا من حيث لا يحتسبون على يد مجموعات من الشباب الثائر الذين قاموا بمظاهرة احتجاجية فى ميدان التحرير سرعان ما تحولت إلى ثورة شاملة شاركت فيها الملايين.
غير أن التناقض التاريخى تمثل فى أن هذه الثورة الشعبية استطاعت جماعة الإخوان المسلمين أن تسرقها من الشعب عبر آليات الديموقراطية الشكلية، ونعنى صناديق الانتخابات بعد أن خلطوا الدين بالسياسة، وأسهموا فى تزييف وعى الجماهير التى ظنت وهما أن شعار «الإسلام هو الحل» هو المفتاح السحرى للتنمية والتقدم.
إلا أن حكم الإخوان المسلمين الذى لم يستمر إلا عاما واحدا كشف -من خلال الهيمنة المطلقة على السلطة وإقصاء كافة أحزاب المعارضة- عن أن هذا الحكم الديكتاتورى أصبح يهدد لأول مرة كيان الدولة ذاته، وذلك من خلال مشروع الجماعة التخريبى عن «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع».
وهكذا قامت 30 يونيو باعتبارها انقلابا شعبيا ضد حكم الإخوان الديكتاتورى الذى لقى تأييدا جسورا من القوات المسلحة المصرية بقيادة «السيسي».
وهكذا تطورت الأمور بعد 30 يونيو، ووضع دستور جديد وتم انتخاب «السيسي» رئيسا بمعدلات قياسية، وأصبحنا الآن فى مرحلة استرداد عافية الدولة التى كادت أن تنهار فى ظل حكم الإخوان.غير أن التحدى الحقيقى هو كيف يمكن أن ننتقل بسرعة لنضع أسسا ديمقراطية مصرية أصيلة لا يدخلها الزيف ولا يلحقها العوار الاجتماعى أو الثقافى.