تقدم تجربة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي الثرية في المزج بين العمل السياسي والعمل الثقافي نموذجاً فريداً لما يمكن أن تقدمه الثقافة بمجالاتها الرحبة من أدوار هي من صميم المشروع السياسي للدولة، خصوصاً إذا كان للدولة مشروع سياسي له أبعاد حضارية ونهضوية.
لقد تعرفت عن قرب، أو بالأحري عايشت هذا المشروع منذ بداياته، ومازلت أتابعه بسعادة لا توصف وصلت إلي ذروتها عندما احتفت مصر رئيساً وحكومة وشعباً بصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلي بدولة الإمارات العربية حاكم الشارقة. فقد قلده الرئيس عبد الفتاح السيسي قلادة الجمهورية، واحتفت به جامعتنا (جامعة القاهرة) ومنحته الدكتوراه الفخرية من كليته التي درس بها وأحبها وتخرج فيها (كلية الزراعة جامعة القاهرة التي التحق بها عام 1965). جاء هذا التقدير المصري للشيخ الدكتور سلطان القاسمي بمناسبة افتتاح الصرح الجديد لدار الوثائق القومية الذي جري تشييده بمنطقة الفسطاط بالقاهرة علي نفقة سموه بتكلفة بلغت مائة مليون جنيه وعلي أعلي مستوي فني حيث فاز تصميم المبني الفريد بجائزة أفضل مبني لحفظ الوثائق في مؤتمر المجلس الدولي للأرشيف، وحيث يتم استخدام أحدث التكنولوجيا في تخزين الوثائق بخبرات فرنسية وإسبانية، ويضم مكتبة تسع 60 ألف كتاب وقاعات بحث وإطلاع وميكروفيلم كما يحتوي علي ثلاثة أدوار مخازن تسع 60 مليون وثيقة.
قبل هذا المشروع كان الشيخ الدكتور سلطان القاسمي قد ساهم في إعادة بناء وترميم المجمع العلمي الذي تعرض لحريق مدبر في فترة الاضطرابات التي أعقبت ثورة 25 يناير 2011، وقبله كان قد تكرم ببناء المقر الجديد للجمعية التاريخية في مدينة نصر بالقاهرة، بعد أن تلقي رسالة من رئيس الجمعية حينئذ المرحوم الأستاذ الدكتور رءوف عباس يخبره فيها أن الجمعية التاريخية المصرية معرضة للإلقاء بها في الشارع بكل ما تحتويه من ثروة وثائقية وتاريخية بقرار من أصحاب المبني القديم الذي تقيم فيه. كانت مجرد رسالة ورد خاطرها إلي الدكتور رءوف الذي أخبرني أنه في لحظة يأس لم يجد من يخاطبه بالأمر الأليم للجمعية التاريخية إلا الدكتور سلطان القاسمي الذي عرف عنه أنه يعشق مصر ويعشق التاريخ ولن يقبل أبداً أن تلقي بالذاكرة الوطنية المصرية إلي عرض الشارع، فكتب الرسالة بعنوان «الديوان الأميري بالشارقة» وعليها اسم الدكتور سلطان القاسمي، وكانت المفاجأة غير المتوقعة أن جاءه الرد عمليا من خلال سفارة الإمارات بالقاهرة وبدأ العمل في إنجاز مبني للجمعية يليق باسمها وتاريخها والرسالة التي تحملها.
حرص الدكتور سلطان القاسمي علي احترام وتقدير العلم والعلماء في مصر وفي الإمارات وفي كل أنحاء العالم العربي ينبع من إدراك أن العلم هو طريق التقدم الذي ليس له بديل، وعشق واحترام الدكتور سلطان للتاريخ يأتي من وعيه بأن التاريخ هو الحامي والمحتوي لذاكرة الأمة، وأن أمة بلا تاريخ هي أمة بلا مستقبل، ولعل هذا ما يفسر سر تحوله من دارس للزراعة في بداية مشواره العلمي إلي عاشق أولاً ودارس ثانياً للتاريخ وحاصل علي أعلي شهاداته العلمية حيث حصل علي درجة دكتوراه الفلسفة في التاريخ من جامعة اكستر ببريطانيا، تحول الدكتور سلطان القاسمي بقوة إلي دراسة العلم والاهتمام بالثقافة والتاريخ والتأليف بعد اصطدامه الذي فرض عليه مع السياسة، وهي الصدمة التي خرج منها بقناعة ويقين بالآية القرآنية الكريمة التي تقول «عسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم». كان التحول من السياسة إلي الثقافة في بدايته قسرياً لكنه أضحي اختيارياً بل ومشروعاً قائماً بذاته من أجل النهضة والتقدم يرتكز علي ركيزتين هما: العروبة والإسلام.
فمشروع النهضة والتقدم عند الدكتور سلطان القاسمي ليس مشروعاً فردياً وليس مشروعاً قطرياً، أي لا يتم داخل كل دولة عربية علي حدة، لكنه مشروع أمة بكاملها، كما أنه مشروع يصعب أن ينطلق دون اعتماد كامل علي هاتين الركيزتين: العروبة والإسلام.
لقد عشت خمسة عشر عاماً في رحاب هذا المشروع بإمارة الشارقة (1985- 1999) عندما التحقت للعمل بمركز الدراسات بمؤسسة «الخليج» للصحافة بقيادة مؤسسها الأخ العزيز المرحوم تريم عمران وشقيقه الدكتور عبد الله عمران، وهما رفيقان وفيان للدكتور سلطان ومعهم كوكبة من خيرة أبناء الإمارات الذين درسوا في عواصم النهضة العربية (القاهرة- بغداد- دمشق). وخلال تلك السنوات لم أعش الغربة كما عاشها غيري كثيرون لأنني اندمجت عضويا ومعنوياً في معارك هذا المشروع مع أشقاء كثيرين من أقطار عربية عشنا معاً في قلب «الحلم العربي» أملاً في تحقيقه مع الدكتور سلطان القاسمي.
شهدت تلك السنوات تطورات شديدة الأهمية اختبرت فيها مصداقية الولاء والانتماء للمشروع النهضوي العربي عند الدكتور سلطان القاسمي. كانت الثورة الإيرانية قد تفجرت وسقط نظام الشاه في عام 1979، وبعدها ظهر الخطر الإيراني متمثلاً في دعوة تصدير الثورة والتدخل في الشئون الداخلية لدول الخليج، وتفجرت الحرب العراقية- الإيرانية التي امتدت لثماني سنوات (1980- 1988)، ثم الغزو العراقي للكويت (2 أغسطس 1990) ثم حرب تحرير الكويت بتحالف أمريكي- دولي (1991) التي امتدت تداعياتها علي العراق والخليج إلي أن اكتملت المأساة بالغزو والاحتلال الأمريكي للعراق (مارس 2003).
وسط كل هذه الأحداث الساخنة والصعبة كان الدكتور سلطان مدافعاً صلباً عن العروبة في وجه كل انحرافات الوعي التي حدثت عند البعض وبالذات بعد الاحتلال العراقي للكويت حيث خرجت أصوات تكفِّر وتلعن العروبة. وكان النادي الثقافي العربي هو مرتكزنا في الدفاع عن العروبة بدعم ومساندة كاملتين من سموه في وجه كل هذه الانحرافات في الوعي.
في هذا النادي، الذي تأسس بقرار من الدكتور سلطان حيث تم دمج النادي الثقافي بالإمارات بكل الأندية العربية بالشارقة ( النادي المصري والنادي السوري والنادي السوداني وغيرها) في نادٍ واحد حمل اسم «النادي الثقافي العربي» استطعنا أن نعيش ونمارس عروبتنا. في هذا النادي الذي كان رمزاً للوحدة العربية المأمولة عشنا «المواطنة العربية» للمرة الأولي بين جدرانه، أو بالأحري في أحضان الدكتور سلطان القاسمي، الذي جعل من هذه المواطنة عنواناً لمشروعه الثقافي- السياسي.
لقد أراد أن يجعل هذا الحلم واقعاً، وأن يطبقه أولاً في الشارقة ومنه ينطلق إلي كل أنحاء الوطن العربي وفي القلب منه مصر التي يعتبرها محور ارتكاز الأمة العربية ومشروعها الحضاري النهضوي، والتي يعتقد عن يقين أن كل استثمار ثقافي بها هو استثمار مباشر في مشروع النهضة العربية، ويري أن ما يقدمه لمصر أو ما يقوم به في مصر هو ممارسة عملية لمبدأ «المواطنة العربية» التي هي حلمه وعنوان مشروعه الذي عاش ويعيش من أجله خادماً لعزة وكرامة الأمة العربية وأملاً في مستقبلها المشرق بإذن الله.