يسود هذه الأيام الحديث المكرر عن تجديد الخطاب الدينى وخصوصا بعد أن دعا الرئيس «السيسى» فى خطاب شهير له إلى ضرورة القيام
بثورة دينية تصحح الأفهام الخاطئة عن الإسلام فى الغرب، وتقوم التفسيرات المنحرفة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية والتى أدت إلى بلورة عقائد دينية متطرفة، تقوم على عدم الاعتراف بالآخر غير المسلم باعتباره كائنا كافراً يستحق قتاله، بالإضافة إلى صياغة شبكة معقدة من التحريمات التى تقيد سلوك المسلمين بشكل عام فى مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، على غير أساس من فهم صحيح الدين.
والدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى موجهة فى المقام الأول إلى الفقهاء والمشايخ الذين يحتكرون الخطاب الدينى باعتبارهم كما يقولون- متخصصين فى الدين حتى يتحرروا من إرث التفسيرات التقليدية للنصوص الدينية والتى لم تعد تصلح للزمن الحاضر، بحكم تغير الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية، ليس ذلك فقط بل إنها دعوة لهم للدخول بجسارة فى مجال تجديد الفكر الدينى وذلك بالتخلى عن التفسيرات القديمة البالية وفتح الباب بجسارة للاجتهاد الذى يلائم العصر الحاضر.
والخطاب أيضا موجه إلى عامة المسلمين سواء كانوا مثقفين أو مواطنين عاديين حتى يبذلوا الجهد لفهم دينهم على أساس مبدأ مسلم به حتى بين أشد الفقهاء غلوا وهو أنه «لا كهانة فى الإسلام». بمعنى أنه لا يجوز أن يكون هناك وسطاء بين النصوص الدينية وعامة الناس، بشرط أن يتسلح المسلم بأدوات البحث الإسلامية المتفق عليها وأهمها على الإطلاق علم أصول الفقه.
وإذا كانت الاعتبارات السابقة تتعلق بمن يقع عليه عبء تجديد الفكر الدينى أفراداً كانوا أو مؤسسات عريقة لها احترامها البالغ كالأزهر الشريف، إلا أنه من الضرورى بمكان الحفر العميق فى التربية الدينية التقليدية لكى نعرف ما هى جذور التشدد الدينى.
ونستطيع أن نرجع إلى كتب «المراجعات» التى كتبها مجموعة من قيادات «الجماعة الإسلامية» و«جماعة الجهاد» اللتان مارس أعضاؤها الإرهاب ضد المصريين والأجانب، وقاموا بالتفجير والاغتيالات قبل أن تسيطر الدولة المصرية على الموقف، وتعتقل أعضاء هذه الجماعات خصوصا بعد حادثة ذبح السياح فى الأقصر.
فى هذه الكتب ـ لو فحصناها بدقة ـ سنجد أنها تتضمن تراجعات «تكتيكية» عن تبرير القتل والاغتيال، غير أن العقيدة التكفيرية الأساسية التى قامت على أساسها هذه الجماعات الإرهابية مازالت تمثل فى نظرهم التفسير الصحيح للقرآن والحديث.
وقد قمت بدراسة شاملة لكتب «المراجعات» لاكتشف الآليات الأساسية التى لجأ إليها هؤلاء الإرهابيون فى تسويغ وتبرير إرهابهم، فوجدت أنها ما أطلقت عليه «آلية القياس الخاطئ والتأويل المنحرف»، وقد نشرت الدراسة فى كتابى »شبكة الحضارة المعرفية، القاهرة (دار نشر ميريت، 2005) بعنوان مراجعة الفكر الإسلامى المتطرف.
الوثيقة التى حللناها عنوانها «ترشيد العمل الجهادى فى مصر والعالم» وتقول الوثيقة إنها تحاول تفسير ما تم ارتكابه من أفعال إرهابية باعتبارها «صدامات» بما دار فيها من نسف وقتل واستباحة للأموال باعتبارها حلالا صافيا. وتقول الوثيقة إن هذه المخالفات الشرعية تمت نتيجة إما جهل بالدين أو عن تعمد!
غير أن أخطر ما فى الوثيقة أنها عرضت بشكل متكامل لنظرية فى التكفير على أساسها يتعامل المتشددون الدينيون مع غير المسلمين ومع المسلمين أنفسهم وهذه النظرية لها مقدمات تبنى عليها نتائج خطيرة.
المقدمات تتمثل فيما سجله قلم الدكتور «فضل» محرر الوثيقة فى الصفحة الثانية تحت بند أولاً: دين الإسلام.
يقول الإسلام ملزم لجميع المكلفين من الإنس والجن من وقت بعثة النبى (صلى الله عليه وسلم) الى يوم القيامة.
وبالتالى فالبشر جميعهم منذ البعثة النبوية وإلى يوم القيامة هم أمة الدعوة (المدعوون لاعتناق الإسلام) فمن استجاب منهم لذلك فهم أمة الإجابة.
وتسترسل الوثيقة فتقول «ومعنى إلزام دين الإسلام أن الله سبحانه لن يحاسب جميع خلقه المكلفين منذ بعثة النبى (صلى الله عليه وسلم) وإلى يوم القيامة إلا على أساس دين الإسلام».
والنتيجة هى «فمن لم يعتنق دين الإسلام أو اعتنقه ثم خرج عن شريعته بناقض من نواقض الإسلام فهو هالك لا محالة إن مات على ذلك».
واستند الدكتور «فضل» فى هذا الحكم الخطير على آية قرآنية هى قوله تعالى «ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين» (آل عمران، آية 85) وأيد كلامه باقتباس من كلام الشيخ «ابن تيمية» و«معلوم بالاضطرار من دين الإسلام وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ إتباع غير دين الإسلام أو إتبع شريعة غير شريعة محمد (صلى الله عليه وسلم) فهو كافر».
وفى تقديرى إنه ينبغى التحليل النقدى البصير لهذا التأويل لخطورته العظمى فى مجال العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين واعتبارهم جميعا هالكين وكفارا لأنه لم يعتنقوا الإسلام.
ويمكن القول أنه ورد فى الوثيقة أيضا حكم أساسى مقتضاه أن هؤلاء الذين لم يعتنقوا الإسلام دينا يحق قتالهم فى الداخل والخارج.
ومعنى ذلك خلق حالة من العداء الأبدى بين المسلمين وغير المسلمين بل وتسويغ قتالهم فى أى مكان.
أليس فى «نظرية» الفسطاطين التى صاغها «بن لادن» زعيم تنظيم «القاعدة» الإرهابى تطبيق دقيق لهذه النظرية التكفيرية، حين زعم أن هناك فسطاطين هما قسطاط الإيمان والذى تمثله بشكل عام الدول الإسلامية، وفسطاط الكفر الذى تمثله الدول الغربية غير المسلمة.
وبناء على هذه النظرية التكفيرية العامة قام تنظيم «القاعدة» بارتكاب أهم جريمة إرهابية فى القرن العشرين وهى نسف البرجين فى الولايات المتحدة الأمريكية اللذين كانا يرمزان لقوة أمريكا الاقتصادية، بالإضافة إلى قصف البنتاجون رمز قوتها العسكرية.
ونحن نعرف جميعا ما الذى ترتب على هذه الجرائم الإرهابية الخطيرة من القرارات الهوجاء «لبوش الإبن» رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بغزو أفغانستان فى بداية إعلانه الحرب على الإرهاب والتى لا يحدها زمان ولا مكان، ثم الغزو العسكرى الإجرامى للعراق بتهمة امتلاك سلاح مدمر مما ترتب عليه تمزيق نسيج المجتمع العراقى، وبروز السياسية الانفصالية التى جعلت الشيعة يستبعدون السنة ويقصوهم عن كل المراكز السياسية، مما سمح من بعد بقيام التنظيمات التكفيرية التى ولدت «داعش» من بين جنباتها.
وهكذا يمكن القول إن المسئولية على عاتق الفقهاء والدعاة قائمة لكى يتخذوا موقفا واضحا من صحة التأويل المنحرف الذى قامت به الجماعات التكفيرية مصرية كانت أو عربية، والتى جعلت المسلمين -هكذا على الإجمال- فى حرب دائمة ضد غير المسلمين على أساس أنهم لم يؤمنوا حتى الآن بالدين الإسلامى.
فى تقديرنا أن هذه النظرية التكفيرية هى الأساس العقائدى لكل الجماعات التكفيرية والإرهابية.