انتهت الزوبعة الإعلامية التى تفجرت قبل شهر ونصف الشهر تقريبا اعتراضا على تصريحات وردت على لسان وزير العدل السابق المستشار محفوظ صابر دافع فيها بـ«عنصرية مقيتة واستعلاء كريه» عن قرار إبعاد 138 من أبناء الطبقات الشعبية من فلاحين وعمال وحرفيين وصغار موظفين كان مجلس القضاء الأعلى قد وافق عليهم ضمن قائمة الفائزين الآخرين للتعيين فى النيابة بجلسته فى 24 يونيو 2013. وقتها اعتقد كثيرون أن تصريحات ذلك الوزير استثنائية، أو أنه أخطأ التعبير لكنه، وبكل أسف، أصر على موقفه وأحرج الحكومة التى اضطرته إلى تقديم استقالته، وقتها اعتقد كثيرون أن إقالة أو استقالة الوزير قد أنهت الأزمة وأعادت إليهم «ثقة افتراضية» أنهم نجحوا فعلاً فى الانتصار لقيم ثورتين شعبيتين استهدفتا بناء المجتمع العادل الذى يحقق لمصر وللمصريين كرامتهم وعزتهم.
وما هى إلا أيام قلائل حتى بدأت الصدمات تتوالى، فقد اكتشف الناس أن ما ورد على لسان الوزير المستقيل أو المقال ليست مجرد «زلة لسان» ولكنها تعبر عن موقف طبقى استعلائى من جانب السادة القضاة نحو أغلب الشعب المصرى، وأنها تعكس منظومة متكاملة من الرؤى والأفكار الطبقية، وتؤكد أن ما نراه من معالم الدولة العصرية من دستور وحكومة وبرلمان وجهاز قضائى ومؤسسات ومنظمات متعددة ما هى إلا واجهة مزيفة لواقع اجتماعى- سياسى آخر شديد التخلف والعنصرية تحكمه منظومة من القيم التى تمتد جذورها إلى عصور انقسام البلاد إلى مجتمع السادة الذين يملكون الثروة والسلطة والجاه والسلطان وشعب مقهور محكوم عليه أن يبقى كما هو، وإن هذا الواقع الطبقى العنصرى مازال قادرا على أن يفرض نفسه رغم كل الإجراءات التغييرية التى قامت بها ثورة 23 يوليو 1952 التى استهدفت إسقاط ما كان يسمى «مجتمع النصف فى المائة» مجتمع الذين يملكون الثروة ويسيطرون على السلطة.
فما ورد على لسان وزير العدل السابق كان الأقل تعصبا ضد الطبقات الشعبية وأبنائها.
فقد تبرع زملاء له من كبار رجال سلك القضاء بإصدار تصريحات أشد تعصبا وإساءة للمصريين ولثورتى 25 يناير و 30 يونيو، وأعنف دفاعا عن مجتمع وقيم دولة الفساد والاستبداد. فإذا كان الوزير المستقيل محفوظ صابر قد تجرأ بالقول «ابن عامل النظافة لا يمكن أن يكون قاضياً، لأن القاضى لابد أن يكون قد نشأ فى وسط بيئى واجتماعى مناسب لهذا العمل» وزاد على ذلك أن «ابن عامل النظافة لو أصبح قاضيا سيتعرض لأزمات مختلفة منها الاكتئاب وحينها لن يستمر فى المهنة» فإن زميلا له عمل رئيساً لمحكمة جنايات القاهرة، أوضح أن هناك قاعدتين أساسيتين، إضافة إلى مبدأ المساواة الذى اقره الدستور، تحكمان الوظائف القضائية وكذلك جهاز الشرطة والقوات المسلحة والسلك الدبلوماسى هما:المواءمة والملاءمة.
هناك نماذج أخرى من القضاء أكثر اعتقادا وإيمانا بالتمييز بين المواطنين بناء على مهنة الأب والوضع الطبقى والأصل العائلى الذى يصل إلى الجد الرابع، وهؤلاء يؤكدون أن هذا التمييز ليس مقصورا فقط على مهنة القضاء ولكنه ممتد لوظائف أخرى كثيرة.
دراسة وتحليل مثل هذه الأفكار تكشف عن حقائق محزنة، أولاها أن أصحابها يؤمنون بأن الخصائص الفردية يجرى توريثها، وهذه نظرة عنصرية ، فهم يعتقدون أن القيم العليا والأخلاق النبيلة تُعد حكراً فقط على أبناء الطبقات الغنية والميسورة وأصحاب المهن الراقية، أما الطبقات السفلى فهى تحتكر، دون غيرها، القيم الخسيسة والدنيئة وغير الأخلاقية، وهم يؤمنون أنهم ومن على شاكلتهم دون غيرهم هم «حراس معبد الوطنية والأخلاق والقيم» وهم من يحفظون للعدالة مكانتها وهيبتها، متجاهلين أن وظيفة القضاء هى العدالة، والعدالة لا تتحقق إلا عندما يتحقق العدل بين الناس وتنتهى كل أشكال التمييز.
وإذا كان هؤلاء السادة يعتقدون أن القيم النبيلة هى سمة الطبقة الراقية فكيف يفسرون لنا تدنى رأس نظام الفساد والاستبداد إلى درجة سرقة أموال القصور الرئاسية ليبنى بها قصوراً لأبنائه، وبسببها حكم عليه القضاء النزيه بالسجن هو ونجليه ثلاث سنوات. وكيف يفسر هؤلاء السادة المحترمون تجرؤ وزير داخلية أسبق على إصدار لائحة لقانون المرور تتضمن استحداث رسوم دون سند من القانون وتخصيصها لأوجه صرف بمعرفته الشخصية. هذه الجريمة بدأت فى 7/8/2002 ولم يبدأ التحقيق فيها إلا مؤخراً فى مارس 2015، أى بعد 13 سنة جرى خلالها تحصيل أموال طائلة لم تدخل خزانة الدولة، ولكن دخلت جيوب كبار الضباط ودعم صناديق التأمين الخاصة بضباط الشرطة.
ثانية هذه الحقائق المحزنة أن موضوع التمييز بين المواطنين وإن كان يعتبر اعتداء صارخاً على أهم مبادئ الدستور إلا أنه محمى بترسانة هائلة من القوانين واللوائح التى يجب نسفها ومنها منع حملة المؤهلات المتوسطة من الترقى للوظائف العليا ومن عضوية النوادى، ومن قبول أبنائهم فى المدارس الخاصة واللغات وغيرها كثير من القوانين التمييزية التى تتعارض مع الدستور وتمتد من التعليم إلى العلاج إلى التوظيف إلى مجالات أخرى متعددة تمعن فى إهانة المصريين.
أما ثالثة هذه الحقائق المحزنة التى عرّتها هذه الأزمة هى أن منظومة قيم التمييز والاستعلاء الطبقى الواردة فى دفاع السادة القضاة عن تمايزهم ليس لها سند من نظريات سياسية فى الحكم ولا أى سند دينى أو أخلاقى. فلا نظريات الحكم الليبرالى إن كانوا ليبراليين تقبل التمييز بل أن الفكر الليبرالى يعد رائداً فى دعم الحقوق والحريات العامة والخاصة، والتأكيد على السيادة الشعبية أى أن تكون السيادة للشعب والحاكمية للشعب، وعلى مبدأ المواطنة المتساوية بين المواطنين. أما نظريات الحكم الاشتراكى فهى رائدة الدعوة إلى المساواة، يأتى الفكر الإسلامى ليؤسس لمجتمع العدالة، بنصوص واضحة من القرآن الكريم ترفض التمييز والاستعلاء وتأكيد أنه «لا تزر وازرة وزر أخرى» ومطالبة المتعالين والمستكبرين والمتفاخرين بمكانتهم وأنسابهم وسلطانهم بقول الله عز وجل «....فلا تزكوا أنفسكم هو اعلم بمن اتقى» (سورة النجم الآية 32).
حقائق مؤلمة ومحزنة تؤكد، ما هو أسوأ وهو أننا نواجه أزمة قيم وأننا إن كنا قد أسقطنا رأس نظام الفساد فإن النظام مازال قائماً، بقيمه وأفكاره وأيضاً برجاله ومؤسساته، وأننا فى حاجة ماسة بعد الثورتين لثورة أهم هى ثورة القيم والمبادئ السياسية والأخلاقية القادرة على بناء «مصر التى نريد» وطنً للعزة والكرامة بإقرار المواطنة المتساوية والفرص المتكافئة لكل المصريين دون محسوبية أو تمييز أو استعلاء.