انشغل الفكر الغربى مبكراً بقضية التخلف المستحكمة بالدول التى أخذت مسمى «دول متخلفة» أو «دول نامية»، كان السؤال الشاغل لهم هو: كيف يمكن القضاء على التخلف كى تلحق هذه الدول بركب التطور والتقدم على النحو الموجود فى الدول الغربية التى كانت توصف عادة بـ «الدول المتقدمة»، لكن هذه النظرة كانت مفعمة بالمغالطات، فأصحابها تناسوا مسئولية الظاهرة الاستعمارية فى فرض وتعميق تخلف مجتمعات تلك الدول وتناسوا عمليات النهب الاستعمارى لثروات هذه الدول وهو النهب الذى وصل إلى أوج عدوانيته فى نهب إنسان هذه الدول واختطافه ليعمل عبداً محروم الحقوق وخاضعاً لأبشع أنواع التمييز العنصرى فى تلك الدول المتقدمة. كما أن أصحاب هذه النظرة يعتبرون أن التخلف ظاهرة متأصلة داخل مجتمعات تلك الدول، وأن التقدم هو صفة الغرب، وأنه لا بديل أمام الدول المتخلفة كى تتقدم إلا أن تمر بنفس مراحل التطور التى مرت بها الدول المتقدمة، ومن ثم فلا مجال هنا لحديث عن ثورة ضد الاستعمار أو ثورة ضد التخلف ولكن الحل هو فى «عملية تطور تدريجى تاريخى طويل المدي» يحاكى مشوار الغرب فى تقدمه.
لذلك نجدهم يحصرون أزمات الدول المتخلفة فى خمس أزمات هى على الترتيب: أزمة الشرعية، أى شرعية نظم الحكم، وأزمة توزيع الموارد وأزمة فعالية الدولة، ثم أزمة الهوية، وأخيراً أزمة المشاركة. لم يعطوا أولوية لسؤال: ماذا نريد؟ وكيف نحقق ما نريد، من هنا كان إغفالهم الحديث عن «أزمة القيم».
تغافلهم الحديث عن أزمة القيم، التى ترتبط بأزمة تثقيف المجتمعات بهذه القيم كانت قوة ضاغطة عند أستاذنا المرحوم الدكتور/ حامد ربيع ليقدم دراسته الجسورة عن «القيم السياسية» واعتباره أن «القيم السياسية» هى لب «النظرية السياسية» فى تحليل مقارن بديع ورائد فى نظرته للتنافس أو للصراع الحضارى الذى كان يتغافله معظم الدارسين والباحثين بين الحضارة الغربية (الرأسمالية) والحضارة الشرقية (الاشتراكية) والحضارة الإسلامية. وتأكيده أن الصراع ليس مرتكزاً على نوعية القيم السياسية وبالذات الحرية والمساواة والعدالة، ولكن بين أى منهما تعتبر القيمة السياسية العليا فى كل من هذه الحضارات، حيث اعتبر أن الحرية هى القيمة العليا فى الحضارة الغربية دون إغفال للمساواة أو للعدالة، وأن المساواة هى القيمة العليا فى الحضارة الشرقية دون تجاهل للعدالة أو للحرية، وأن العدالة هى القيمة العليا فى الحضارة الإسلامية دون إهمال للحرية أو للمساواة، حيث استطاعت الحضارة الإسلامية وخاصة فى بعدها العربى أن تقدم إبداعاً يربط بين القيم الثلاثة، وهذا ما نؤمن به نحن عندما نتحدث عن الحرية العادلة، وعن المساواة العادلة.
أين ذهب هذا الإبداع العربى الإسلامى فى نظرية القيم السياسية، كيف انتكسنا قيمياً وارتددنا على مفاهيمنا وقيمنا السياسية العليا وخاصة أن القرآن الكريم حارب كل دعاوى التمييز والنكوص بقواعد الالتزام بالحرية العادلة التى لا تعتدى ولا تتجاوز حريات الآخرين، وبالمساواة العادلة التى لا تساوى بين ما هو مجتهد وما هو خامل، بين المبدع وغير المبدع. ويبدو أننا وصلنا إلى مرحلة من التدنى القيمى والأخلاقى التى تفرض علينا إعادة واكتشاف أنفسنا، اكتشاف من نحن وماذا نريد.
فمنذ فجر الإسلام وهناك من يحاربون دعوة العدالة ويقاتلون من أجل فرض التمييز بين الناس. فهم حاربوا رسولنا الكريم لأن الرسالة الإسلامية نزلت على محمد صلى الله عليه وآله ولم تنزل «على رجل من القريتين عظيم»، وكانت هذه هى قضية كل الأنبياء الكرام مع أممهم منذ نوح عليه السلام وحتى رسولنا الكريم. كانوا يرفضون دعوة الإيمان لسببين أولهما أن النبى أو الرسول المختار ليس من طبقة العظماء أو النبلاء، وثانيهما أن من آمنوا به لم يكونوا من تلك الطبقة بل هم من أراذل وفقراء القوم. وكان رد ربنا سبحانه وتعالى على كل هؤلاء «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» (سورة النساء- الآية 49)، لكن الله سبحانه وتعالى أنزل سورة كاملة تعيد تربية وتعليم المسلمين هى سورة الحجرات.
فقد اهتمت هذه السورة الكريمة بتأديب وتهذيب خلق المسلمين ابتداء من علاقتهم مع رسولهم الكريم وامتداداً إلى علاقتهم بأنفسهم وعلاقتهم ببعضهم البعض. كانت الأولوية لأدب التعامل مع الرسول الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ « (الآية -2)، ثم توالت آيات تعليم أخلاقيات تعامل المسلمين ابتداء من «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ « (الآية- 6)، إلى «وإنْ طَائِفَتانِ مِنَ المؤمِنِينَ اقْتَتَلوا فأصلِحُوا بَيْنَهُما، فإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأخْرى فَقاتِلوا التى تَبْغِى حَتّى تَفيءَ إلى أَمْرِ الله، فإنْ فاءتْ فأصلحوا بَيْنَهما بالعَدْلِ، وأقْسِطُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ»، ثم تتجه السورة إلى ترسيخ معنى المساواة العادلة ونبذ الاستعلاء: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (الآية 10) إلي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (الآية 11).
وليست سورة الحجرات وحدها التى تحارب التمييز والاستعلاء فالقرآن عامر بالآيات المرشدة إلى قيمة التواضع وعدم الاستكبار كما جاء فى سورة النجم وهو يتحدث عن الذين أحسنوا وأن الله سيجزيهم بالحسنى ويصفهم بأنهم «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَي» (الآية 32).
أما سورة المجادلة فكانت أكثر صراحة فى توضيح أن الموالاة والانحياز يكون لله وحده دون غيره من حاكم أو أهل أو أقارب. ويحسم القرآن الكريم قضية الموالاة لله، وجدية العمل والالتزام بقوله فى سورة الصف «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون» (الآيتان2، 3). وقبلها حدد فى سورة الأنعام، وبشكل حاسم معنى العدل المطلق فى العلاقة بين المسلمين «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (الآية 152).
مقتطفات سريعة تؤكد أن الإسلام جاء ليحارب التمييز سكما جاء فى القرآن أو فى السنة النبوية المطهرة، وجاء ليعلى قيم المؤاخاة بين المسلمين، ونبذ الاستكبار بينهم. أين ذهب كل هذا؟ كيف ولماذا توارت الأخلاق والقيم الحميدة ومن المسئول، وكيف لنا أن نستعيدها؟
هذه هى الأسئلة المهمة التى علينا جميعاً أن نجيب عليها كى لا نتردى بوطننا فى مستنقع آسن من قيم بديلة وكريهة من استعلاء واستكبار وتحقير لأغلبية الشعب وقواه العاملة من فلاحين وعمال وحرفيين وصغار موظفين هم فعلاً الآن وقود الحرب المقدسة ضد الإرهاب.