في منهجية البحث العلمي المعاصر في مجال العلوم الطبيعية هناك تجربة علمية يطلق عليها التجربة الحاسمة Crucial experiment. وهذه التجربة تجري عادة حين يشتد الخلاف بين العلماء حول اكتشاف علمي ما ثارت الشبهات حول صحته Validity، لأن التجارب العلمية التي أجريت عليه متضاربة، مع أنها جميعاً أجريت باستخدام الإجراءات البحثية نفسها التي نشرها علمياً صاحب الاكتشاف.
التجربة الحاسمة تجري بمنتهى الدقة لحسم هذا الخلاف وإعلان الحقيقة سواء بزيف الاكتشاف أو بصحته، ودخوله بذلك في تاريخ العلم باعتباره إنجازاً.
وهذه التجارب الحاسمة لها ما يناظرها في الاستراتيجية وتاريخ الحروب ويطلق عليها «المعارك الحاسمة». ولو رجعنا إلى سجل الحرب العالمية الثانية لاكتشفنا معارك حاسمة عدة غيرت مجرى الحرب، وسمحت لقوات الحلفاء أن تنتصر انتصاراً كاسحاً على قوات دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان). المعركة الحاسمة الأولى جرت في الصحراء الغربية في مصر حين استطاع الجنرال مونتغومري قائد قوات الحلفاء أن ينتصر على الجيش الألماني بقيادة الجنرال رومل، والذي نجح في الزحف بانتظام تجاه القاهرة التي كان يريد دخولها غازياً راكباً صهوة جواد أبيض!
واضطر رومل إلى الانسحاب بقواته بعد أن دحرته قوات الحلفاء، وكانت هذه الهزيمة الإشارة الأولى إلى أن العاصفة النازية بقيادة هتلر - والتي كانت في الحقيقة مضادة لحركة التاريخ - بدأت في الانحسار التدريجي.
غير أن المعركة الحاسمة الكبرى التي قضت نهائياً على أحلام هتلر في إخضاع القارة الأوروبية كلها لسلطانه كانت في موقعة ستالينغراد. ذلك أن الحماقة النازية دفعت هتلر إلى أن يأمر قواته باكتساح الدول الأوروبية والمضي قدماً لاحتلال الاتحاد السوفياتي!
وفي ستالينغراد دارت معركة بطولية حقاً استطاع فيها الجيش السوفياتي أن يهزم القوات الألمانية الغازية، بل وأن يطاردها حتى برلين ويحتل قسماً كبيراً منها.
هكذا، أدت معركة ستالينغراد الحاسمة إلى الهزيمة النهائية للقوات النازية ومحاكمة قادتها في محاكمة نورمبرغ الشهيرة.
لقد سقنا هذا المثل واستقيناه من سجل الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تنتمي إلى حروب الجيل الثالث، حيث تتلاقى الدبابات المتعادية في ميدان المعركة وينتصر الطرف الذي يستطيع تدمير أكبر عدد من دبابات خصمه.
غير أننا نعيش اليوم في زمن حروب الجيل الرابع، والتي لا تتعامل فيها الجيوش النظامية ذات العقائد العسكرية الثابتة مع بعضها بعضاً، ولكن تقابل الجيوش النظامية حرب عصابات شعارها اضرب واجرِ! أي أنه ليست هناك مواجهات عسكرية مباشرة، خصوصاً لأن العصابات الإرهابية - ونموذجها الأساسي اليوم هو تنظيم «داعش» الذي أعلن قيام «الخلافة الإسلامية» في أراض أسقطها بسهولة مثيرة للدهشة من سورية والعراق - عادة ما تختلط بالسكان بحيث يصعب أن تحدث مواجهات مباشرة بين جيش نظامي تقليدي وهذه العصابات المتحركة. خصوصاً أنه في حروب الجيل الرابع ليس هناك ميدان محدد للمعركة Battle Field، ولكن هناك فضاء للمعركة Space Field. ولعل خريطة تمدد تنظيم «داعش» من سورية إلى العراق تؤكد هذه الحقيقة، لأن ذلك حدث في فضاء متسع وليس في ميدان محدد.
وذلك إضافة إلى الاستخدام البالغ الذكاء من جانب تنظيم «داعش» لثورة الاتصالات وفي قلبها شبكة الإنترنت للتواصل وإذاعة أشرطة الفيديو التي تصور ذبح الرهائن أو إحراقهم أحياء أو إغراقهم لبث الرعب في النفوس.
وقد قرر خبراء استراتيجيون من أهل الثقة – ويا للغرابة - أن تنظيم «داعش» لا يقهر وأنه لا تمكن منازلته بقوات عسكرية برية لأنها لم يتم إعدادها لحرب العصابات. ولعل ذلك ما دفع بالولايات المتحدة الأميركية إلى الاكتفاء بشن هجمات جوية غير فعالة على مواقع «داعش» استناداً إلى هذه المزاعم الاستراتيجية التي دفعت قوات التحالف الغربية إلى التخاذل والانسحاب المنظم أمام عصابات «داعش».
ولكن، شاءت الظروف وربما شاءت حماقة هذا التنظيم الإرهابي الخطير إلى خوض مغامرة عسكرية كبرى ظن أنه يمكن الانتصار فيها على الدولة المصرية، وذلك بالهجوم المنظم في صورة تشكيل عسكري قوامه لا يقل عن 30 إرهابياً مسلحين بالأسلحة الثقيلة على ثمانية عشر موقعاً عسكرياً مصرياً في الشيخ زويد في سيناء لدحر القوات المصرية، ورفع أعلام «داعش» على مباني الشرطة والجيش المصري، وإعلان قيام «ولاية سيناء» لتصبح إحدى ولايات الخلافة الإسلامية!
كانت قوات الجيش المصري الباسلة في انتظارهم، وهزمتهم في «معركة حاسمة» هزيمة كبرى، وتناثرت جثث الإرهابيين في كل مكان، وتم القبض على أعداد كبيرة منهم.
هذه «المعركة الحاسمة» هي المؤشر المؤكد للفشل العسكري لتنظيم «داعش» الذي قيل أنه لا يقهر، وعلى السقوط التاريخي للمشروع الإرهابي التخريبي والإجرامي لهذا التنظيم البدائي الذي يظن أنه يمكن أن يستعيد سلوكيات الحروب الهمجية التي سادت في القرون الوسطى في ساحات الصراع في القرن الحادي والعشرين!
لذلك، تساءل عدد من الخبراء الاستراتيجيين ومن الكتاب الصحافيين عن العوامل التي أدت إلى الانتصار الساحق لـ «داعش» في سورية والعراق وهزيمته الكبرى في سيناء.
قدمت تفسيرات أحسب أنها منطقية للغاية. ولعل أهمها أن تنظيم «داعش» نجح هذا النجاح الساحق في كل من سورية والعراق لأن كلتا الدولتين تم تفكيكها بالكامل.
الدولة العراقية تم تفكيكها بفعل الغزو الأميركي الإجرامي على العراق، والذي تم ضد الشرعية الدولية وباعتراض مجلس الأمن لإسقاط صدام حسين ونظامه بزعم أنه يمتلك أسلحة دمار شامل. وقد ترتبت على هذا الغزو الإجرامي نتائج كارثية سواء بالنسبة إلى العراق، أو بالنسبة إلى تمدد الإرهاب في العالم العربي.
لقد تم تمزيق نسيج المجتمع العراقي، والذي كان قد توصل بصعوبة إلى صيغة تعايش مشترك بين السنّة والشيعة، وتم الإقصاء الكامل للسنّة وتحولت دولة العراق لتصبح نخبتها السياسية الحاكمة كلها من الشيعة، ما أحدث توترات بالغة العنف في المجتمع نتيجة إقصاء السنّة من دوائر صنع القرار. ومن ناحية أخرى تم حل الجيش العراقي وإعادة تشكيله على يد القوات الأميركية وقد دفعت الولايات المتحدة البلايين لتدريبه وتسليحه. غير أن النتيجة كانت صفراً لأن هذا الجيش المصطنع هو الذي انسحب بصورة مهينة أمام المهاجمين من تنظيم «داعش»، ما سمح لهم باحتلال الموصل وتهديد العاصمة بغداد ذاتها. بل إن بعض المعلومات تقول أن هذا الجيش سلم أسلحته وذخائره إلى تنظيم «داعش».
ولو نظرنا إلى سورية فهي نموذج آخر للدولة المنهارة بعد أن قامت فيها ثورة شعبية مطالبة أولاً بالإصلاح السياسي، ثم ما لبثت أن صعدت من مطالبها بمطالبتها بشار الأسد بالرحيل هو ونخبته السياسية الفاسدة.
وهكذا وجد تنظيم «داعش» الفرصة التاريخية السانحة لكي يتمدد داخل سورية، ثم ينطلق في سباق ماراثوني تجاه بغداد، وينجح فعلاً في احتلال مساحات عراقية شاسعة، ويحتل الموصل كما ذكرنا ويهدد بغداد نفسها!
وقد أعطى ذلك تنظيم «داعش» ثقة كبرى، وظن قادته أنهم لا يقهرون وذلك هو الذي أدى بهم في الواقع إلى إعلان دولة «الخلافة الإسلامية» بقيادة «الخليفة» أبو بكر البغدادي.
وفي مواجهة التخاذل العالمي في مواجهة تنظيم «داعش» تصدت القوات المسلحة المصرية ببسالة منقطعة النظير للقوات الإرهابية في سيناء ودحرتها تماماً، لأن الدولة المصرية العريقة لم تصبها نيران التفكك، ولأن المجتمع المصري لم تغزه موجات التعصب المذهبي أو التطرف الديني، خصوصاً بعد إسقاط الشعب المصري الحكم الديكتاتوري لجماعة «الإخوان المسلمين» في 30 يونيو.
هزيمة «داعش» المدوية في سيناء تقدم البشارة ليس لمصر فقط ولا للوطن العربي فحسب، ولكن للعالم كله الذي يرتعد خوفاً ووجلاً من التمرد «الداعشي» الذي أصبح يهدد عواصم الغرب، أن «داعش» تمكن هزيمته وبالقوات المسلحة النظامية التي زعم من قبل أنها لا يمكن أن تواجه عصابات الإرهابيين.
ستدخل المعركة الحاسمة التي خاضتها القوات المسلحة المصرية إلى التاريخ في سجل الإنجازات العسكرية المبهرة!